د.عبدالخالق حسين
هناك تصعيد في همجية خوارج العصر، الفاشية الدينية، أو ما أطلق عليهم في أول الأمر "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش، ISIS)، ثم اختزلوا الاسم إلى الدولة الإسلامية (IS)، عندما امتدت شرورها إلى ما وراء العراق وسوريا، وطرحت نفسها كبديل عن القاعدة (الأم)، حيث تفوَّقت على الأخيرة في القسوة والوحشية والهمجية
وكان استخدام الحرق في قتل الضحايا وهم أحياء لنشر أقصى ما يمكن من الخوف والذعر بين البشر، لأن الإرهاب يعتمد في إخضاع الخصوم على نشر الذعر. وآخر تصعيد لهم في الهمجية هو الهجمة الوحشية الشرسة على الآثار التاريخية في متاحف الموصل، وإزالة المعالم حضارية التي تثبت للعالم الدور الريادي لشعوب وادي الرافدين، مهد الحضارة الإنسانية.
فقد شاهدنا من خلال الفيديو (رابط رقم 1 و2 في الهامش)، كيف انهال الأوباش على التماثيل والمعالم التاريخية والآثار في الموصل بالمطارق والفؤوس لتحطيمها بلا تأنيب من ضمير أو رادع من أخلاق. وأين لهم الضمير والأخلاق بعد أن قامت مشايخ الضلال الوهابيين بغسل أدمغتهم، وجمَّلت لهم الأعمال الوحشية باسم الدين، وأحالوهم إلى وحوش بشرية كاسرة تغلي بالحقد والعداء ضد الإنسانية والحضارة، ولم يسلم منهم بشر، ولا شجر، ولا حتى الحجر إذا وجدوا فيه رمزاً للحضارة الإنسانية. لقد أعطى هؤلاء المجرمون صورة سيئة وقبيحة عن الإسلام لا يصحو منها إلى الأبد، فالإسلام صار أيديولوجية للإرهابيين وضد الحضارة، والإنسانية، خاصة وأنهم يدعمون جرائهم بالنصوص الدينية والاقتفاء بالتراث ديني عميق والسلف الصالح.
لقد استخدم مشايخهم النصوص الدينية المتشددة، من الكتاب والسنة، والتراث العربي الإسلامي خارج سياقها التاريخي لخدمة الشر وإضفاء القداسة الدينية على جرائمهم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قاموا بتشبيه أعمالهم البربرية في تدمير الآثار التاريخية بما قام به النبي إبراهيم، والنبي محمد في تحطيم الأصنام، وشتان بين الحدثين والزمنين. نسي هؤلاء أو تناسوا عمداً ولأغراض كيدية ضد الحضارة والإنسانية، أن ما قام به الأنبياء من تحطيم الأصنام في العصور الغابرة كان نتيجة صراع بين دين جديد يريد تثبيت أقدامه، ودين قديم عفى عليه الزمن وتجاوزه العقل السليم. في حين ما يقوم به الدواعش الأوباش في القرن الحادي والعشرين هو ليس تحطيم الأصنام في المعابد، بل تحطيم المعالم الحضارية في المتاحف وإعادة البشر 1400 سنة إلى الوراء.
فالمتاحف والأماكن الآثارية هي مراكز تثقيفية تجمع فيها الآثار التاريخية لتبين مراحل تطور العقل البشري ودور الإنسان العراقي في بناء الحضارة. فالدواعش لم يفرقوا بين المعابد والمتاحف. فالمتاحف إضافة إلى كونها تشبه المدارس والمعاهد في التعليم والتثقيف، فهي مراكز جذب السواح إلى البلاد، ومراجع تاريخية للباحثين من شتى أنحاء العالم. وحتى المعابد، ومهما اختلفت في المعتقدات، فقد وصلت البشرية إلى قناعة بوجوب التعايش السلمي بينها.
والجدير بالذكر أن مشايخ الإرهاب يتناسون عن قصد، ويغضون النظر عن النصوص الدينية التي تمنح الإنسان حرية الارادة والاختيار وتترك حكمه إلى الله ليوم الحساب. وعلى سبيل المثال نذكر ما جاء في القرآن: (لكم دينكم ولي ديني)، و(لا إكراه في الدين)، (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون)، وغيرها الكثير من الآيات البينات التي تمنح الإنسان حرية الاختيار، وإلا لا ذهب على من لا خيار له. وبعد كل ذلك، فبأي حق تحاربون معابد ومعتقدات الآخرين؟ والمفارقة أن نقرأ مقولة: (لا تشتم إلهاً لا تعبده) على أحد المعابد في تدمر السورية باللغة الآرامية التدمرية، كتبت قبل ألفين وخمسمائة سنة.
لقد تم اكتشاف هذه الكنوز الآثارية عن طريق حفريات دقيقة بجهود مضنية بذلها خبراء في الحفريات والتاريخ القديم، من مختلف أنحاء العالم وعراقيون منذ القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا. هذه الكنوز التاريخية لا تقدر بثمن، وهي ملك البشرية، وقد بقيت آلاف السنين، متحدية الزمن، ربما لأنها كانت مطمورة في باطن الأرض، وإذا بها تتحطم بالمعاول والجرافات في قرن الحادي والعشرين، فأية كارثة حضارية هذه تحدث في بلاد الرافدين، مهد الحضارة الإنسانية؟
ولم يكتف الأوباش المتوحشون باستخدام المطارق والفؤوس في التحطيم، بل واستخدموا الجرافات (بلدوزرات) لإزالة آثار مدينة نمرود وسووها بالأرض (نفس المصدر، 1 و2). هذه المعالم الآشورية والكلدانية في محافظة نينوى (الموصل) كانت تضم آثار حضارة العراق من مختلف الأزمان والعصور. إن حجم الخسارة لا يقدر، إلى حد أن البشرية أصيبت بالصدمة والذهول وعدم التصديق، وهل حقاً مازال هناك بشر بهذا القدر من التوحش والتخلف؟
قبل أكثر من عشر سنوات، ورداً على بعض دعوات العراقيين في المطالبة بإعادة آثارنا من متاحف الدول الغربية إلى العراق، كتبت مقالاً ذكرت فيه أنه أسلم لهذه الآثار أن تبقى في المتاحف الغربية على أن تعاد إلى متاحفنا العراقية، فهذه الآثار، مثل مسلة حمو رابي في متحف لوفر في باريس، في أمان، يشاهدها سنوياً عشرات الملايين من مختلف أنحاء العالم، بينما لو كانت في العراق لتعرضت للخطر، كما حصل لمتاحفنا من سرقة الآثار الثمينة من قبل أبناء صدام حسين وأزلامه، ومن ثم للسرقة والفرهود بعد سقوط النظام، وما حصل الآن لهذه الآثار في الموصول من دمار وخراب. لذلك أعيد التأكيد أننا يجب أن نشعر بالامتنان إلى الدول الغربية التي حفظت لنا كنوزنا التاريخية في متاحفها، وإلا تعرضت للدمار والسرقة.
والسؤال الملح هو: من المسؤول عن هذه الجرائم البشعة؟
في رأيي، تقع المسؤولية على عاتق جميع من خلقوا (داعش) وساندوها بدوافع طائفية لوأد الديمقراطية الوليدة في العراق، ابتداءً من الأخوين النجيفي وأياد علاوي والمطلق وطارق الهاشمي، وبارزاني وغيرهم كثيرون، ومروراً بمملكة الشر، السعودية، ودويلة قطر، وتركياً، و إلى باراك أوباما الذي امتنع عن دعم العراق في حربه على داعش في أول الأمر بتأثير اللوبي الطائفي في واشنطن مردداً خرافة (العزل والتهميش)، وأن الحل هو تشكيل حكومة شاملة (Inclusive government)...الخ، بعبارة أخرى التخلص من رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. ولما تم لهم ذلك، وخرجت داعش عن سيطرتهم، وفوجؤا بالنتائج غير المقصودة، كما هو شأن التاريخ، ووصلت داعش إلى تخوم أربيل تهدد الشركات الأمريكية ومصالحها، عندئذ فقط انتبه أوباما إلى أن داعش منظمة إرهابية متوحشة، و ليست إسلامية، ولا تعرف لغة التفاهم، ولا يمكن حل المشاكل معها سياسياً، (صح النوم !) ولكن (بعد خراب البصرة)، أو بالأحرى (بعد خراب الموصل). بل وراحت أمريكا ومعها الإعلام الغربي، يبشرون بأن داعش يمكن أن تبقى إلى أجل غير محدود، وهذا دليل على أنهم يريدون داعش أن تبقى ليستخدمونها في اداء الأعمال القذرة ضد أية حكومة تشق عصا الطاعة على أمريكا في المنطقة(4).
إن لم تكن هذه مؤامرة على العراق وديمقراطيته الوليدة ودول المنطقة فما هي المؤامرة إذنْ؟
ولكن لينتبه أنصار الشر، أن النتائج غير المقصودة هي دائماً تفوق النتائج المقصودة. ولكم من كارثة 11 سبتمبر 2001، دروس وعبر.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/