بقلم: زهير دعيم
منذ ان انفتحت عيناي على الأدب والشِّعر ، ذبتُ هوىً بجبران خليل جبران ، هذا الفتى الشّرقيّ الذي كحّل الغرب بوجدانياته ، وطرّزها بخياله المُجنّح وأحلامه وفلسفته ، فجاءت لوحاته تحكي وتنطق؛ لوحات بهرت الغربيين قبل الشّرقيين.
كنت أسافر ليلةً ليلة بخيالي وأزوره في عُلّيّته في نيويورك ، تلك الصومعة البسيطة ، الغافية فوق الطريق ، وأروح أعيشها بكراسيها العتيقة ، ومرآتها القديمة وركوة القهوة ، حيث جبران يغليها على مهل كعادته ليرتشف نعيمة منها فنجانا تلو الآخر ، كل هذا تحت سمع ومرأى المصلوب المُعلّق على الجدار قبالة جبران..
اتخيّل جبران وهو يركن الى التّأمّل ومناجاة المصلوب ، والانفلات من قيود الواقع ورباط الهموم واحداث السّاعة ، فينصهر في بوتقة الرّوح والاحلام المُحلِّقة في وادي قديشا وخلف تلال بشرّي.
صومعة جبران...عُلّيّة جبران ، حيث سلخ فيها هذا الفتى الشرقيّ أكثر من عشرين سنة من عمره القصير الطويل ، خطّ فيها أجمل ابداعاته وتجاذب فيها أطرف الحديث مع نعيمة وعريضة وهاسكل و"شلّة" الرابطة القلميّة تحت مرأى ومسمع المصلوب الذي أحبّه جبران وقال فيه:
" لم يكن يسوع مكسور الجناحين ، بل كان عاصفة هوجاء تكسّر بهبوبها الاجنحة المعوّجة"
" لم يجيء يسوع من وراء الشَّفَق الأزرق ليجعل الألم رمزًا للحياة ، بل جاء ليجعل الحياة رمزًا للحقّ والحريّة ".
" إنّ إكليل الشّوك على رأسك ( يا يسوع) هو أجلّ وأجمل من تاج بهرام ، والمسمار في كفِّكَ أسمى وأفخم من صوْلجان المشتري ، وقطرات الدماء على قدميْكَ اسمى لمعانًا من قلائد عشتروت".
وكبرْتُ .... وأمسكت بخيط عليّة جبران ؛ عليّة نيويورك ورحت أسير حافيًا ، أقطعُ المسافات والسّنوات والآماد الى أن حطّت قدماي في عُليّة أخرى ، أروع بما لا يقاس، عليّة منها فاضت المحبّة فغمرت المحيطات والقّارّات والفضاء ، ومنها انطلق الخبر السّارّ يحمل شذا الرّجاء الى كلّ نفْس مهما كانت جافّة ، قاحلة ، تغدو في لحظات مزهرة غنّاء.
نعم هناك عرفت أنّني غالٍ ، مُميَّز ،وأنّني لم أغب لحظة عن فكر ذاك الذي كوّننا بكلمة .
...من هناك بدأت الحياة ، الكنيسة الصامدة ، القويّة ، الرّاسخة ، المتحدّيّة ، التي ستنكسر فوقها كل قوى الشّرّ...
من هناك وهناك ... من علّيّة صهيون تأسست الأفخارستيا ؛ هذا السرّ الرائع ، الذي يأكل فيه المرء "جسد الإله المُحبّ " ويشرب من " دمه " ويتذكّر آلامه فينتعش ويحيا ويقوى ويمتلئ حبًّا وعطاءً وحياة .
" 22 وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ، أَخَذَ يَسُوعُ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ، وَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا، هذَا هُوَ جَسَدِي».
23 ثُمَّ أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ، فَشَرِبُوا مِنْهَا كُلُّهُمْ.
24 وَقَالَ لَهُمْ: «هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ.
25 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ اللهِ».
هناك ظهر عريس الأجيال لتلاميذه ، بعد ان قزّمَ ابليس في عقر داره وغلبة شرّ غلبة .
هناك ومن هناك فاض الرّوح القُدُس في يوم الخمسين وملأ الأنام فرحًا وايمانًا وتقوى.
عُلّيّتان.....الأولى مشى فيها الأدب وغرّد الشِّعْر وزغرد الإبداع، والثانية روحيّة انتشت فيها الرّوح واستكانت في طمأنينة مطمئنة.
عُلّيّتان ... الأولى أرضيّة ، وقتيّة ، مهما زهت تبقى باهتةً ، والأخرى روحيّة تتجدّد فيها النّفْس حينًا وتتمرّد على الخطيئة أحيانًا ، وتنمو وتنتشي كلّما ذاقت كسرة صغيرة من ذاك الخبز وجرعة صغيرة من ذاك المسفوك على خشبة الافتخار.
عُلّيّتان :
الأولى ملعب الصّبا
والثانية سرّ الحياة الفضلى وينبوع الديمومة.
عُلّيتان: علّية الطفولة..وعلّيّة الحياة.