بقلم: د. يحيى الوكيل
لم ينهض العالم المتقدم إلا بفصل الدين عن الدولة و منع رجال الدين من التأثير على القرار السياسى، و هو هدف يعمل له كل المثقفين الناشطين سياسيا فى مصر لنلحق بركب الحضارة بعد أن تسبب شيوخنا فى تخلفنا الطويل و ما زلنا نعمل له.
و قد كنت أظن أنه يكفينا القتال على هذه الجبهة وحدها و هو ما يحتاج الى حشد كل الطاقات لمحاولة بلوغ نصر أعرف أنه صعب و بعيد، و لكن تفضلت الحكومة المصرية بفتح جبهة جديدة بالتدخل فى الشرائع الدينية فصار علينا أيضا أن نقاتل لفصل الدولة عن الدين، و قواعد الاستراتيجية توصى بعدم الحرب على جبهتين لكننا أصبحنا محاصرين و فرض علينا هذا الوضع.
أتكلم عن الحكم الصادر من المحكمة الادارية العليا بالزواج الثانى للمسيحيين و الذى أعلم أنه يتعارض مع الشريعة المسيحية – بدون الدخول فى تفاصيل لاهوتية لا أملك الخوض فيها. هذا الحكم ببساطة هو تدخل سياسى فى التشريع و هو فى رأيى بنفس درجة الخطورة إن لم يكن أكثر خطرا من تدخل الدين فى السياسة، و القبول به يفتح أبواب الجحيم.
تعالوا نتصور أن الحكم نُفذ بنقض أساس من أسس الشريعة المسيحية، ألا يفتح هذا الباب للحكومة لمنع القداس يوم الأحد و جعله بقرار سياسى يوم الجمعة لأنه – مثلا – يوم الإجازة الأسبوعى الرسمى؟ ألا يفتح هذا الباب لما هو أكثر من هذا و لن أطيل فى التخيلات حتى لا أزود الحكومة بأفكار قد نجدها قيد التطبيق.
أعلم أنه يجب على الجميع رفض هذا التدخل السياسى فى صلب الشرائع، فلو قبلنا هذا المبدأ فلا أحد يعلم ما الذى يمكن أن يكون عليه حجم و خطورة التدخلات القادمة.
الغريب فى الأمر صدور هذا الحكم فى هذا التوقيت و نحن نتعامل مع أخطر ما مرت به مقدرات مصر ممثلاً فى مشكلة حصة مصر من مياه النيل، فهل تعمدت الحكومة هذه الخطوة لصرف النظر عن تلك المشكلة؟
هناك احتمال آخر، و هو أن يكون هذا الحكم رشوة انتخابية موجهة لكهوف الظلام الاخوانية - و لا ننسى أن مجلس القضاء به نسبة كبيرة من المتشددين دينيا و هؤلاء ولاؤهم للبلد و شعبها يأتى ثانيا و ليس أولا مطلقا.
لا يتصورن أحد أن التدخل فى صلب الشريعية المسيحية مشكلة قبطية، بل هى مشكلة عامة.
يحضرنى هنا كلام قرأته على لسان أحد المثقفين الألمان الذين عاشوا فترة النازية و تلظوا بنارها، و ملخصه أنه سكت عن ما فعله النازيون بالكاثوليك لأنه ليس منهم و سكت كذلك عما فعلوه بالغجر و اليهود و غيرهم، فلما طال نير العسف المثقفين لم يجدوا أحدا يدافع عنهم إذ لم يعد هناك أحد.
أظن المعنى واضح.
الحل للمشكلة هو الدولة المدنية، و هو ما نعمل له جميعا. الدولة المدنية تحكمها قوانين يرتضيها مواطنوها و هم جميعا أمام القانون سواسية و لا تتدخل الدولة فى الشرائع الدينية و معتقدات مواطنيها طالما أن تلك الشرائع لا تتعارض مع قوانين البلاد المدنية – أو بمعنى أدق أن القوانين المدنية لا تتعارض مع الشرائع.
دعوا الناس يعبدون الله كما يتراءى لهم.