يطل مقر حزب التجمع الرئيسى على ميدان طلعت حرب، وقد سمح له هذا الموقع، أن يكون شاهدًا عن قرب لمعظم التطورات المتوالية، التى عرفتها مصر منذ ثورة 25 يناير 2011 وحتى الآن. ومع بداية هذه الثورة،
كانت الشوارع المتفرعة من ميدان طلعت حرب، التى تؤدى إلى ميدان التحرير، تزدحم بالمتظاهرين الذين يكملون مسيرتهم حتى الميدان.وكانت شرفات البيوت المطلة على تلك الشوارع تمتلئ عن آخرها بسكانها وهم يصفقون، ويشجعون المتظاهرين، ويلوحون لهم ويمدونهم فى أحيان كثيرة بزجاجات المياه، وقد زينت معظم هذه الشرفات فيما بعد بالاعلام المصرية، وكذلك فعل أصحاب المحلات التجارية الكائنة فى تلك الشوارع، حيث بدا أن الجميع بمختلف أعمارهم ، ومراتبهم الوظيفية ومواقعهم الاجتماعية، ومواقفهم الفكرية والسياسية، يتفقون على مطلب واحد هو التغيير، والحلم ببلد جديد يحفظ كرامة الإنسان ويصون حريته. وفى اللحظة التى أعلن فيها اللواء «عمر سليمان» تخلى الرئيس الأسبق «مبارك» عن موقعه، تعالت الهتافات فى ميدان طلعت حرب، وامتداده فى الشوارع الجانبية التى امتلأت عن آخرها بالمتظاهرين الذين صمت صيحات فرحهم وتهليلهم، كل الآذان.
وظلت هذه الحالة قائمة، تحدث بشكل متقطع، ولأسباب متفاوتة، ولم يكن يمر يوم واحد دون أن يشهد ميدان طلعت حرب مظاهرة هنا أو هناك سواء كانت كبيرة أو صغيرة العدد، وما إن بدأت المظاهرات التى تعارض حكم الإخوان، وتحتج على سياستهم، حتى سادت الفوضى فى كل مكان، وشاء صانعو هذه الفوضى، أن يحولوا مطالب هذه الثورة بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية، إلى عدوان سارح على حقوق الدولة وحقوق الآخرين.
احتل الباعة الجائلون كل أرصفة ميدان طلعت حرب وغيره من الشوارع والميادين، وتذمر أصحاب المحال التجارية فى بادئ الأمر، ثم باتوا يعرضون بضائعهم لديهم فيما بعد، عقب أن ساد الركود الأسواق وتكبدوا هم وغيرهم من المهن المختلفة خسائر فادحة، وبدأ كم هائل من الفوضى غير المسبوقة راح يخلط بجهل وعمد وتنطع وانتهازية تنطوى على قدر غير قليل من الرطانة والمزايدة، بين ما هو سياسيى وما هو استرزاق، وبين ما هو تحرش وما هو استهبال وبلطجة، وبين ما هو ثورى يحلم بمستقبل شخصى وعام، يصون أمن الوطن ووحدته ومؤسسات دولته، ويقوض أغلال الظلم والاستبداد، ويرفع على انحائه رايات العدل والحرية، وما هو فوضوى، لا هم له سوى الانقضاض على أشكال السلطة المنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية، تمجيدا للحرية المطلقة البعيدة عن أى مسئوليات.
باتت المظاهرات بسبب حقيقى أو مزعوم، حكاية كل يوم، تعطل الطرق وتغلق الكبارى والشوارع، وتهدر الوقت، وتوقف حياة المواطنين، فضلا عما يسفر عنها، من اتلاف للممتلكات العامة والخاصة، فغدت الغالبية العظمى من المواطنين، -وبينهم تجار وسط البلد-ترى أن هذه المظاهرات تنتقص من حقهم فى مزاولة أعمالهم، وتحرمهم هم وعائلاتهم من العيش بمأمن من الفوضى التى باتت متتحررة من سلطة القانون والأعراف والتقاليد، وقبل هذه وذاك من أى وازع دينى أو أخلاقى، وأصبح استمرارها ثقيل الوطأة على المزاج العام السائد، فجاء قانون التظاهر بناء على مطالبات ومظلوميات هذه الغالبية من المصريين، وهو ما يتجاهله معظم الذين ينتقدونه، بالاضافة إلى العمى الحسى الذى أصاب هؤلاء، وحال بينهم وبين رؤية الدور الذى لعبه هذا القانون فى الحد من هذه الفوضى، ومحاصرة آثارها المخيفة.
وبعد أحداث السبت الدامى المؤلمة، التى راح ضحيتها شابة جميلة مفعمة بالحيوية والحماس، فإن الصخب الذى رافقها،والتعليقات التى أعقبتها، والتبريرات التى قدمت لها لم تجب كلها عن هذه الأسئلة الشائكة:
< فما الذى دفع حزب سياسى محترم، يمتلك قيادات من ذوى الخبرة والكفاءة لاتخاذ مثل هذا القرار الفوضوى، الذى أدى إلى استشهاد كادر سياسى مهم وفاعل فى الحياة المدنية؟
< وكيف فات على قيادات هذا الحزب، أن البلد يعيش فى حالة توتر، بفعل العصابة التى استأجرتها جماعة الإخوان كى تخرب وتدمر، وتسعى لتحويل البلد إلى شعلة نار، وأنه لا يجوز فى هذه الأجواء تشتيت أجهزة الأمن، أو ارباكها بمحاولة الفرز بين من هو المتظاهر السلمى ومن هو غير السلمى؟
< أو ليس من البديهى فى ظرف كهذا يتهدد أجهزة الأمن موجة إرهابية عاتية، ويقع على عاتقها تأمين بلد بحجم مصر من جماعة إرهابية فاقدة للعقل ولا دين لها ولا خلق، ويسقط من بين أفرادها كل يوم شهداء أن تتطير من أى تحرك، وأن تتشكك فى أن ما هو سلمى قد يكون غطاء لما هو غير سلمى، خاصة أن من بين من يشتركون فى مظاهرات الجماعة، قوى مدنية معروفة،تتخذ منهم ساترا لإرهابها؟
< وإذا كان أعضاء هذا الحزب قد شكلوا وفدا لوضع باقات الزهور فى ميدان التحرير كما قالوا، فهل كان عصيا عليهم الذهاب فرادى إلى الميدان، والمسافة بين حزبهم وبينه بضعة أمتار؟ ولماذا لم يخطروا الشرطة فربما نصحتهم بالذهاب لوضع الزهور على نصب الشهداء فى مدينة نصر، لاسيما وأن الهدف الاستراتيجى للإخوان فى هذا اليوم كان هو احتلال الميدان أو أى ميدان آخر، وأن الهدف الرئيسى لقوات الشرطة هو منع تكرار ما حدث فى رابعة، وحماية آلاف الأماكن الحيوية التى كان من المتوقع أن تكون محلا للاستهداف؟
< وإذا كان الهدف هو كسر قانون التظاهر، فما الضرورة لمظاهرة من بضعة أفراد فى يوم ملتهب، وبيننا وبين مجلس النواب نحو 4 أشهر، يستطيع الحزب، أن يعد نوابا، أو يتحالف مع كتل نيابية تعارضه، لاسقاط القانون بالقانون، وليس بالخروج عليه؟
< ليس من مصلحة أحد خلط الأوراق، والتغاضى عن التحديات الخطيرة التى تواجه مصر، وتقودها تحالفات عربية وإقليمية ودولية استعمارية، يزعجها ما أسفرت عنه ثورة 30 يونية 2013، التى اسقطت حكمًا فاشيًا عميلاً، ولا يسرها أن النظام الذى اختاره المصريون بمحض ارادتهم، يسير قدما نحو نقل بلادهم من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة. وليس من أصول الثورية، أن نلقى اتهامات جزافية لا تستهدف سوى إثارة المشاعر وتعكير الأجواء، وأن نعجز عن تقدير الأولويات، التى تتصدرها دون نقاش معضلة الإرهاب، وكل من يقلل من هذا الخطر المخيف، وهو يشهر شعارات اشتراكية وديمقراطية، لا يخدم سوى إطالة أمد هذا الإرهاب الدموى، ويمنح مرتكبيه غطاء ثوريا.
< دم شيماء الصباغ ليس فى رقبة الرئيس السيسى، كما يزعم البعض، ولا هو حتى مسئولية رجال الشرطة، الذين كانوا مكلفين بتأمين البلاد تحت ضغط الحرائق وتدمير القطارات ومحولات الكهرباء ومحطات المياه، وقطع الطرق والقاء القنابل الحارقة عليهم وعلى المسافرين والسائرين ومركبات النقل العام، وحذروا قبل ذلك من خروج أى مسيرات.
< دمها فى رقبة الحزب السياسى الذى قرر خوض هذه المغامرة الحمقاء، ليمنح أعداء الوطن سلاحًا جديدًا!
نقلا عن الوفد
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع