المقبلون من خلف التاريخ يستقدمون معهم أساطير الأقدمين، فقد حاصر الإغريق، بحسب الأسطورة، مدينة طروادة عشر سنوات ولم ينجحوا فى اختراق تحصيناتها المنيعة، فاتجهوا للحيلة ليصنعوا أكبر حصان خشبى فى التاريخ، إذ يبلغ طوله مائة متر ووزنه ثلاثة أطنان، وهو أجوف من الداخل، احتشد داخله الجنود بقيادة أوديسيوس، وفى خطوة تكتيكية ينسحب الجيش الإغريقى بشكل لافت، وكأنه رحل، ليختبئ خلف الأكمة، ومن خلال جاسوس إغريقى يُدعى «سينون» يقبل الطرواديون الحصان الذى قُدم لهم على أنه «هدية سلام»، ويرفض المتنفذون قبول تحذيرات حكماء المدينة ومنها تفتيش الحصان بحذر قبل دخوله المدينة، ويستقبل الطرواديون الحصان بفرح وصخب شعبوى ابتهاجاً برفع الحصار، وعندما خيم الظلام كانت المدينة قد أنهكتها الاحتفالات وأسكرتها خمرة الانتصار، وراحت فى سبات عميق، ليخرج الجنود من الحصان، ويفتحوا أبواب المدينة لبقية الجيش الإغريقى، وتُنهب المدينة بلا هوادة ويُقتل رجالها وتقع النساء فى الأسر ويؤخذ الأطفال كعبيد، وتسقط المدينة.
المقبلون من خلف التاريخ يعيدون إنتاج الأسطورة بعد «عصرنتها»، ويقدمون تنازلات تبدو كأنها مراجعات سياسية فيقبلون الانخراط فى منظومة الأحزاب، ويعلنون أنهم مع الدولة «المدنية» ويقبلون بالديمقراطية، بل ويذهبون إلى ما هو أبعد، فيقبلون فى أحزابهم مَن يفتون بانتقاص مواطنتهم، ويحرمون التعامل معهم أو تهنئتهم بأعيادهم، ويملأون الفضاء ويسودون الصفحات بانتهاك ما يؤمنون به والنيل من عقائدهم وإيمانهم، ويحسبونهم فى عداد الكفرة، لكنها الضرورات، ويجدون من سقط المتاع من المسيحيين من يقبلون بدور المحلل لعبور مضايق القانون واشتراطاته، ممن يعانون من أزمات تختنق بها حياتهم، ويصح فيهم قول الشاعر: المستجير بعمرو عند كربته.. كالمستجير من الرمضاء بالنار.
وعندما تطالب القوى الوطنية بحظر الأحزاب الدينية تلجأ هذه الأحزاب إلى استحضار التجربة الإسرائيلية، وأن بها أعتى الأحزاب اليمينية الدينية. وهى تُحسب، بقولهم، واحة الديمقراطية بالمنطقة، بل ويستشهدون بالأحزاب المسيحية فى الغرب، ألمانيا مثالاً، فى إغفال مخل للتطور الذى اجتازته هذه الأحزاب ليبقى الاسم مفارقاً لطبيعتها ومسارات الدستور هناك، لكنها المخاتلة والمراوغة.
ولا يُتصور، بعيداً عن التنظير الذى يقدم لتقنين وضعيتها المخالفة للدستور، عدم إدراك أن هذه الأحزاب هى الباب الخلفى لعودة نظام «تديين الحكم» والانقضاض على الوطن مجدداً، ولا يمكن الاحتماء بنص المادة الثانية، فهى تتحدث عن التزام التشريع بمبادئ الشريعة الإسلامية التى لا تُقر فى أصولها بالأحزاب ابتداء.
وعندما يخصص الدستور مادة تنظم هذا الأمر، فهذا يعنى تأكيد نية المشرع الدستورى، بما لا يقبل التأويل، رفض الأحزاب الدينية، مادة (74): «للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية، بإخطار ينظمه القانون. ولا يجوز مباشرة أى نشاط سياسى، أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو على أساس طائفى أو جغرافى، أو ممارسة نشاط معاد لمبادئ الديمقراطية، أو سرى، أو ذى طابع عسكرى أو شبه عسكرى. ولا يجوز حل الأحزاب إلا بحكم قضائى».
ووفقاً للقاعدة الدستورية تُحسب الديباجة جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وفيها نقرأ: «نحن الآن نكتب دستوراً يجسد حلم الأجيال بمجتمع مزدهر متلاحم، ودولة عادلة تحقق طموحات اليوم والغد للفرد، نحن الآن نكتب دستوراً يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية، ترسى مبدأ المواطنة والمساواة بين أبناء الجماعة الوطنية»، وتذكر الديباجة أن ابن الأزهر رفاعة دعا إلى أن يكون الوطن «محلاً للسعادة المشتركة بين بنيه».
متى نتدارك الخطر ونحمى الوطن من حصان طروادة المعاصر.. بقرار سيادى اليوم قبل الغد؟