يُقال أن الأشخاص يشعرون بدنو الموت، يختلط بهم، يصادقهم، فكيف بعظماء التاريخ، يمكنك أن تشعر بالموت في أعينهم، في فحوى كلماتهم، ثُم يموتون، ولا يكتفون بذلك، إذ يصرون على إرسال إشارات من العالم الآخر، رسائل ضمنية، كلماتٌ ربما كانت عادية قبل موتهم، تتحول إلى رسائلٌ صارخة بعد ذلك، لدرجة يمكن أن تتعجب كيف لم نلحظ فحواها من قبل، وترصد “المصري لايت” بعض شخصيات التاريخ، وآخر كلماتهم للعالم قبل موتهم في هذا التقرير.
محمود المليجي
كان محمود المليجي، يصور فيلمه «أيوب» عام 1983، مع الفنان عُمر الشريف، وكان يستعد لتصوير مشهده الأخير في الفيلم، ثُم وهو يجلس مع فريق العمل قبل البدء في التصوير، طلب أن يشرب القهوة، وما أن أتت، حتى ارتشف البعض من فنجانه، ثُم اضجع على كرسيه، وأمعن في اللاشيء وقال «يا أخي الحياة دي غريبة جدًا.. الواحد ينام ويصحى، وينام ويصحى، وينام ويشخر»، وهنا أصدر «المليجي» صوت الشخير، في إتقانٍ منه للمشهد، لكن ذلك الصوت ما لبث أن انقطع، وحل الصمت بين الجميع، صمتٌ طويل، قتلته كلمات عُمر الشريف الذي قال «إيه يا محمود!.. خلاص»، لكنه فعلًا كان الخلاص، إذ اكتشف «الشريف» أن “المليجي” لم يكن يُمثل مشهدًا، لكنه كان يغادر الحياة على طريقته الخاصة، ليُسلم روحه في السادس من يونيو 1983.
بينظير بوتو
رئيسة وزراء باكستان، التي ناضلت طويلًا من أجل شعبها، فقوبلت بالنفي وما أن قررت العودة بعد فترة طويلة من الغياب عن وطنها حتى تعرضت لمحاولة اغتيال، وبرغم شعورها أن النهاية حتمًا قريبة، إلا أنها لم تضع قدمًا للوراء.
قبل خطابها الأخير في باكستان وبعد محاولة لاغتيالها باءت بالفشل، ودّعت «بوتو» ابنتيها اللتين اقتربت ذكرى ميلادهما، وتمنت لهما عيد ميلاد سعيد مُسبقًا، وكأنما شعرت أنها لن تكون حاضرة في ذاك الوقت.
في آخر أيامها، قالت «بوتو»، وبعد خطابٍ لها تلك الكلمات: «بعد الخطاب كنت أغوص في أفكاري، وفجأة وسط هذه الجماهير وهذا الصخب، شعرت بأن الشهداء يرافقونني، فلم يكن من مجالٍ للوحدة، شعرت بوجودهم، ما نقلني إلى مكانٍ آخر، شعرت بأنني أرتقي عاليًا وكأنني أرتفع فوق الحشود».
كلمات «بوتو» كانت بمثابة النبوء، كأنها تصف ذلك اليوم؛ 27 من ديسمبر 2007، عندما خرجت بعد خطابها الناري قبل الانتخابات الباكستانية، والتي أرادت أن تفوز بها للمرة الثالثة، وكانت الجماهير تحوطها من كل مكان، وهي تطل من فتحة سقف سيارتها، وإذ بـ 3 رصاصاتٍ تخترق رسها، من بندقيةٍ قريبة، ثم يقوم مطلق الرصاص بتفجير نفسه وسط الحشود، تاركًا جُثثٌ وأشلاءٌ على الطريق ورأس رئيسة الوزراء الأشهر في باكستان مستقرًا على سقف السيارة.
إيميليا إيرهارت
الغائبة، التي حيرت العالم لأكثر من 7 عقود، واستنفذت كل ما لدى المحققين من نظريات وفرضيات، ونُسج حول اختفائها قصص كثيرة. هي أول امرأة تعبر المحيط الأطلنطي بمفردها، وكانت تستعد في الأول من يونيو 1937، لرحلة تكسر بها مُستحيلٌ آخر، بالطيران حول العالم، لكن منذ أقلعت طائرتها لم تحط إلى الآن، أو ربما حطت في المجهول، لكنك حتمًا ستتعجب عندما تسمع «إيميليا» وهي تقول تلك الكلمات قبل إقلاعها في رحلة المجهول تلك؛ «جدوني إن استطعتُم»، في تحدٍ للعالم، كسبته عن عمد أو من غير، حتي اليوم.
مارتن لوثر كينج
المُناضل ضد العنصرية، والذي كان مُلهمًا للعرق الأسود حول العالم، كان يحلم بأن يُصبح الجميع سواسية، وأنه في يومٍ ما لن يتم الحُكم على أولاده من لون بشرتهم.
في خطابٍ له في ممفيس، في مظاهرة للعمال هناك، قال: «مثل أي شخص، أود أن أعيش حياة طويلة؛ طول العمر له مكانه. لكن أنا لست قلقا بشأن ذلك الآن. أريد فقط أن تحدث مشيئة الله. ولقد سمح لي أن أرتفع إلى الجبل.. ورأيت أرض الميعاد. قد لا أصل الى هناك معكم. ولكن أريد منك أن تعرفوا هذه الليلة، أننا، كشعب، سوف نصل إلى أرض الميعاد».
ربما شعر مارتن بقرب النهاية، وحوت تلك الكلمات تفاصيل اليوم التالي لها، إذ تم اغتياله، قبل انطلاقه لقيادة مظاهرة العمال، قتلوا حلمًا ما أراد تحقيقه، حلمٌ قال للجميع في كلماته قبل يومٍ من اغتياله، أنهم سيصلوا له.
محمد فوزي
فنانٌ تعلّق اسمه في الأذهان مرتبطًا بالبهجة والسرور، لكن الجزء الحزين في حياته ظل مطويًا بعيدًا عن الأعين، معاناة طويلة أمضاها مع مرض «سرطان العظام»، الذي توغل فيه حتى أفقده وزنه إلى 37 كيلوجرامًا كوزن طفلٍ في السابعة من عمره.
في يوم الخميس 20 أكتوبر 1966، كتب «فوزي» تلك الرسالة: «منذ أكثر من سنة تقريبا وأنا أشكو من ألم حاد فى جسمى لا أعرف سببه، بعض الأطباء يقولون إنه روماتيزم والبعض يقول إنه نتيجة عملية الحالب التى أجريت لى، كل هذا يحدث والألم يزداد شيئًا فشيئًا، وبدأ النوم يطير من عينى واحتار الأطباء فى تشخيص هذا المرض، كل هذا وأنا أحاول إخفاء آلامى عن الأصدقاء إلى أن استبد بى المرض ولم أستطع القيام من الفراش وبدأ وزنى ينقص، وفقدت فعلا حوال 12 كجم، وانسدت نفسى عن الأكل حتى الحقن المسكنة التى كنت أُحْقَن بها لتخفيف الألم بدأ جسمى يأخذ عليها وأصبحت لا تؤثر فىّ وبدأ الأهل والأصدقاء يشعرونى بآلامى وضعفى وأنا حاسس أنى أذوب كالشمعة.
إن الموت علينا حق.. إذا لم نمت اليوم سنموت غدا، وأحمد الله أننى مؤمن بربى، فلا أخاف الموت الذى قد يريحنى من هذه الآلام التى أعانيها، فقد أديت واجبى نحو بلدى وكنت أتمنى أن أؤدى الكثير، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة والأعمار بيد الله، لن يطيبها الطب ولكنى لجأت إلى العلاج حتى لا أكون مقصرا فى حق نفسى وفى حق مستقبل أولادى الذين لا يزالون يطلبون العلم فى القاهرة.. تحياتى إلى كل إنسان أحبنى ورفع يده إلى السما من أجلى.. تحياتى لكل طفل أسعدته ألحانى.. تحياتى لبلدى.. أخيرًا تحياتى لأولادى وأسرتي».
كلماتٌ مؤلمة، قدر ألم صاحبها، الذي شعر بقرب النهاية، وربما كانت بذلك القرب الشديد منه؛ فقد وافته المنية بعد رسالته تلك بساعاتٍ، في نفس اليوم، ودُفن صبيحة يوم الجمعة.
المثير أن «فوزي» كان اختتم رسالته تلك بهذه الكلمات: «لا أريد أن أُدفن اليوم.. أريد أن تكون جنازتي غدًا الساعة 11 صباحًا من ميدان التحرير.. فأنا أريد أن أُدفن يوم الجمعة».. وهو ما كان بالفعل.