المؤرخ مسلح بالوثائق، أما أنا فمسرحجي أتعامل مع الأحداث بوصفها أفعالا مسرحية، وأنظر للبشر صانعي هذه الأفعال بوصفهم شخصيات تتحرك فوق خشبة المسرح، مسرح الدنيا. باختصار، لا تبحث عن الدقة التاريخية فيما أحكيه لك فربما لا تجدها، بل ربما لا يوجد من الأصل شيء يسمى الدقة التاريخية، غير أني أؤكد لك أنك ستجد الصدق كل الصدق ولا شيء غير الصدق.
وفي ليلة 23 يوليو (تموز) 1952 تم استدعاء أنور السادات من مقر خدمته في العريش ليقوم بدوره في حركة الجيش، فجاء بالفعل وقرر أن يدخل السينما مع زوجته السيدة جيهان. وحدث شيء غريب، تشاجر السادات مع عامل السينما المكلف إجلاس الزبائن (البلاسير)، وانتهى الأمر بأن اقتاده إلى مركز الشرطة وحرر له محضرا.
ويقول المثقفون الخبثاء والظرفاء إنه افتعل هذه الواقعة، لكي يثبت عند انكشاف أمر الحركة أنه كان في السينما، وأن هناك محضرا في الشرطة يثبت ذلك. أي إنه افتعل هذه الحكاية ليحصل على دليل لا يمكن دحضه يثبت عدم وجوده مع جماعته.
لا يمكن استخدام هذه الواقعة بفرض حدوثها للتدليل على خبثه والتوائه، هو أقدم زملائه جميعا وأكثرهم خبرة في حقل التآمر والجماعات السرية، وكان يعرف أن احتمال انكشافهم أمر وارد، فلماذا لا يوفر لنفسه دليل براءته قبل أن تقع الواقعة؟
نجحت جماعة الضباط الأحرار في القبض على كل قادة الجيش والسيطرة على كل المواقع المهمة في القاهرة، وأذيع البيان رقم (1) من الإذاعة المصرية بصوت أنور السادات، الوحيد بينهم الذي يجيد نطق اللغة العربية. لم يكن الملك فاروق في القاهرة، كان في الإسكندرية هو وحكومته. وهو تقليد قديم لا أعتقد أن له مثيلا في طول التاريخ وعرضه، الحكومة تحكم البلاد من القاهرة شتاء ومن الإسكندرية صيفا.. يا للروقان.
وجهت القيادة الجديدة إنذارا للملك بأن يتنازل عن العرش لابنه الطفل، وأن يغادر البلاد وهو ما حدث بالفعل.. لماذا استسلم فاروق بهذه السهولة بينما هو يعرف أن الإسكندرية بها عدد كبير من قواته على استعداد لأن يحارب من أجل حمايته. الواقع أنه أجاب بعد ذلك بسنوات عن هذا السؤال: لم أتصور أن يقتل الضباط المصريون بعضهم بعضا في معركة لا ضرورة لها.
لست أرى هذه الإجابة كافية لشرح موقفه وحالته. كان يمر في تلك المرحلة بحالة مؤلمة من الهزيمة النفسية بسبب مشاكله مع أمه وأخواته. وهناك الخلفية التاريخية المهزومة أيضا؛ كان فاروق ككل المصريين ضد الإنجليز وباقي دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، كان مع الألمان والطليان بكل عواطفه وأقرب الناس إليه في القصر كانوا ألمانا وطليانا. هزيمة الأنظمة الفاشية في الحرب قضت تماما على تماسكه النفسي. بينه وبين نفسه، لم يعد ملكا. هو مجرد شخص مهزوم على كافة الأصعدة. لذلك أنا أعتقد أنه تعامل مع الموقف بوصفه الدواء الوحيد الذي يشفيه مما يعانيه.. إن أفضل ما يمكن أن يحدث له، هو أن يرحل.. فأبحر الرجل على يخت «المحروسة» إلى إيطاليا مشيعا بطلقات المدفعية البحرية تحييه للمرة الأخيرة.. كنا نعرف الأصول ونتمسك بها.
نقلا عن الشرق الأوسط