فاروق عطية
مصر منذ أيام الفراعنة وهي متعددة الأديان, لكل منطقة بل لكل مدينة أوقرية إلهُها أو معبودها, ولكنها أبدا لم تنجرف إلي الصراع الديني إلا في بعض فترات نادرة, مثل ثورة إخناتون التوحيدية وإلغاءه جميع المعبودات عدا الإله الواحد آتوم. هذا التحول الديني أغضب كهنة الأديان الملغاة وعلي رأسهم كهنة آمون ورع مما دعاهم للتخطيط والتنسيق للانقلاب علي إخناتون وديانته, ولكن الشعب المصري نفسه لم يقتتل بسبب هذه التحولات الدينية, وانحصر القتال بين كهنة آمون رع وكهنة أتوم.
وحتي بعد الكبوة الفرعونية وإصابة مصر بالاستعمار خاصة الاستعمار الروماني, وبعد دخول مصر للديانة المسيحية علي يد القديس مرقص الرسول, لم يحدث تقاتل بين المصريين المسيحيين وأخوتهم من عبدة الآلهة المصرية الفرعونية, وكان التعايش بين المصريين جميعا كعادته بلا مشاكل, حتي صار كل المصريين بقوة الإقناع والمحبة مسيحيين مثاليين. أما ما حدث للمصريين من اضطهاد عظيم كان بين الغزاة الرومان والمصريين عامة بغرض منعهم من الدخول للمسيحية وإجبارهم علي عبادة آلهة الرومان.
ثم تبعه الاستعمار العربي البدوي الاستيطاني بحجة تخليص مصر من الاستعمار الروماني ونشر الدين الإسلامي, والذي أطلقوا عليه كذبا وتدليسا فتح مصر وقبول المصريين للفتح طواعية وحبا. وفي الحقيقة لم يكن غزو مصر أو ان شئت فتح مصر لنشر الدين الإسلامي لأن الدين لا ينتشر بالقهر وقطع الرقاب والاستيلاء علي الممتلكات وتسخير ملاكها للعمل كعبيد ونسائهم وأطفالهم كسبايا تغتصب وتباع في أسواق النخاسة, ولكن الدين أي دين ينتشر بالإقناع والقدوة الحسنة.
بعكس ما جاء بكتب التاريخ التي تحتشد بتزوير للأحداث التاريخية لتتوافق مع ما تريده الوهابية وبعكس ما يرددونه عن فرحة المصريين بالفتح العربي تبقى الحقيقة ساطعة لمن يريد أن يراها، فالغرو العربي لمصر لم يكن لنشر الإسلام فيها ولم يكن لرقة قلب ابن العاص لسماعه أنين المصريين وشكواهم من حكم الرومان فأراد لهم الخلاص. الحقيقة كما نعرفها أن الغزو كان للاستيلاء على ثروات البلاد واستعباد أهلها. والدليل القاطع على حاجة الغزاة العرب الحقيقية لدخول مصر هو أن أول أعمال عمرو بن العاص فيها كانت إعادة فتح قناة سيزوستريس (قناة تروجان) كي ينقل خيرات مصر لجزيرة القحط عن طريق البحر الأحمر بدلا من الجمال والتي ينتظر الخليفة فيها كل ما يأتيه من البقرة الحلوب مصر.
كما أن المغالطات المستمرة عن كون مصر لم تبادر بالثورة ضد الغزو العربي فهو قول تكذبه كل حقائق التاريخ فالمصريون ثاروا 120 ثورة ونجحوا في أحيان كثيرة في طرد العرب من أجزاء كثيرة من البلاد مما كان يستدعي معه الخلفاء لإرسال جيوشا جديدة لتعاون الجيش العربي في مصر على قمع الثورات والاحتفاظ بها.
وحين نضب المعين واستبد الفقر بأهل مصر تحت تأثير الجزية والضرائب الباهظة وجدوا ألا خلاص إلا بدخول الإسلام حتى ترفع عنهم الجزية، مما اضطر عمرو بن العاص أن يطلب من الخليفة عمر بن الخطاب أن يجيز له فرض الجزية على من أسلم من مسيحي مصر لأن دخول القبط إلي الإسلام قد أضر بالجزية, وقد نوه بذلك المؤرخ ساويرس بن المقفع يأنّ الهروب من الجزية كان أكبر عامل على انتشار الإسلام، كما ذُكر المقريزي أنّ الخليفة عبد الملك بن مروان كتب إلى أخيه وواليه على مصر عبد العزيز بن مروان، مؤكدا أنْ يضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة. وبالرغم من إسلامهم ظل المصريين يدفعون الجزية كما ظلت الأرض كافرة.
وبعد أن استتب الأمر للغزاة ورضخ المصريون للأمر الواقع بدأت سياسة الاستعمار العربي الاستيطاني. هاجرت قبائل عربية بأكملها من شبه الجزيرة العربية إلى الأراضي المحتلة بحثا عن الأراضي الخصبة، وصادر المستعمرون العرب أفضلها من المصريين، الذين تحولوا من ملاك وسادة إلى زراع وعبيد مستأجرين أو مسخّرين للمهاجرين العرب الواصلين حديثا. سلب المهاجرون العرب قرى بكاملها وسيطروا عليها بعد أن رحّلوا سكانها إلى مناطق أخري مهجورة. وحين فطن يعض المصريين الذين تحولوا للإسلام وأتقنوا اللغة العربية ما يمتاز به العرب من بأس وسيادة هاجروا إلي مناطق لا يعرفهم أهلها وادعوا أنهم من القبائل العربية وانخرطروا في استعباد أخوتهم المصؤيين كما يفعل الغزاة. ومع اختلاط الأقلية العربية المميزة بالمصريين بالمصاهرة والتزاوج أصيح جميع من في مصر مسيحيين ومسلمين أقباطا أي مصريين ولكن بذرة الكراهية والتنافر بينهم بدأت في النمو والتكاثر.
واستمر الحال من سيئ إلي أسوأ طوال الحكم الاستعماري العربي تحت مسمي الخلافة العربية من عمر بن الخطاب حتي خلافة آل عثمان التركية, حتي وصلنا إلي ولاية محمد علي باشا واليا من قبل الباب العالي العثماني علي مصر بتأييد من المصريين وعلي رأسهم الشيخ عمر مكرم. ومحمدعلي باشا هو مؤسس الأسرة العلوية وحاكم مصر ما بين عامي 1805 إلى 1848م، ويوصف بأنه "مؤسس مصر الحديثة". إعتلي عرش مصر عام 1805 بعد أن بايعه أعيان البلاد ليكون واليًا عليها، بعد ثورة الشعب على سلفه خورشيد باشا
ومكّنه ذكاؤه واستغلاله للظروف المحيطة به من أن يستمر في حكم مصر كل تلك الفترة، ليكسر بذلك العادة التركية التي كانت لا تترك واليًا على مصر لأكثر من عامين. خاض محمد علي في بداية فترة حكمه حربًا داخلية ضد المماليك والإنجليز إلى أن خضعت له مصر بالكليّة، ثم خاض حروبًا بالوكالة عن الدولة العلية في جزيرة العرب ضد الوهابيين وضد الثوار اليونانيين الثائرين على الحكم العثماني في المورة، كما وسع دولته جنوبًا بضمه للسودان. وبعد ذلك تحول لمهاجمة الدولة العثمانية حيث حارب جيوشها في الشام والأناضول، وكاد يسقط الدولة العثمانية، لولا تعارض ذلك مع مصالح الدول الغربية التي أوقفت محمد علي وأرغمته على التنازل عن معظم الأراضي التي ضمها. خلال فترة حكمه استطاع أن ينهض بمصر عسكريًا وتعليميًا وصناعيًا وزراعيًا وتجاريًا، مما جعل من مصر دولة ذات ثقل في تلك الفترة.
من أهم القرارات التي أصدرها محمد علي تحقيا للمساواة في الموطنة بين الأقباط مسلمين ومسيحيين:-
ـ الغاء إجبار الأقباط على إرتداء الزى الأزرق والأسود الذى كان مفروضاً عليهم من قبل السلطنة العثمانية التى كانت ملتزمة بالشريعة الإسلامية والوثيقة العمرية، وأصبحوا يلبسون الكشمير الملون, كما خلعوا الجلاجل النحاسية التى تسببت فى إزرقاق عظام الترقوة وأصبح العظمة الزرقاء لقباً كناية عن الإضطهادات الإسلامية لهم .
ـ سمح للأقباط بركوب البغال والخيول, ولا شك ان هذا كان ممتعاً لهم ان يتمتعوا بالحرية وأن يركبوا ما شاؤوا من البغال والخيول.
ـ السماح للأقباط بحمل السلاح وذلك لأول مرة فى تاريخ الإحتلال الأسلامى العربى لمصر أى منذ 1400 سنة .
ـ سمح للأقباط بحرية بناء الكنائس وممارسة الطقوس الدينية ولم يرفض اى طلب تقدم به الأقباط لبناء أو إصلاح أى كنيسة .
ـ كان أول حاكم مسلم يمنح موظفي الدولة من الأقباط رتبة الباكوية عرفانا بخدماتهم لمصر كما أتخذ له مستشارين من الأقباط , وعين البعض حكاما للأقاليم (بطرس أغا أرمانيوس حاكما علي برديس, فرج أغا ميخائيل حاكما علي دير مواس, ميخائيل أغا عبده حاكما علي الفشن, رزق أغا حاكما علي الشرقية).
ـ كثيرا ما عاني الأقباط في عهد المماليك من صعوبات عديدة للحصول علي إذن بزيارة الأراضي المقدسة، لكن برعاية وتسهيلات محمد علي باشا اصبح الأمر ميسرا وممهدا, مع إصدار توصياته للعاملين بالأراضي المقدسة لتسهيل زياراتهم.
في عهد محمد سعيد باشا والي مصر الذي عاش في أوروبا وتأثر بمبادئ المساواة والتسامح علي يد أحد أساتذته, أصدر فرمانا بإلغاء الجزية والموافقة علي إلحاق الأقباط بالقوات المسلحة, بذلك صارت مصر أولي الولايات العثمانية التي ألغت الجزية عن المسيحيين. واستمر خلفاء محمد علي ولاة وخديويين وسلاطين وملوك في معاملة المصريين بالمساواة, وانعكس ذلك علي حسن المعاملة بين المصريين جميعا كمسلمين ومسيحيين ويهود خاصة أيام الملك فاروق الأول وحزب الأغلبية الوفدية, تحت راية مصر الخفاقة بلونها الأخضر رمزا للزرع والنمو والهلال الذي يحتضن النجوم الثلاث رمزا لديناتها الثلاث المتعايشة.
إنقلب الحال تديجيا بعد حركة الضباط وإعلان الجمهوية وبزوغ نجم الأخوان المسلمون الذين برعوا في يث الفرقة, وتخلصت مصر نهائيا من يهودها, ودب الشقاق بين مسلميها ومسيحيها, الذي بدأ حسيسا في عهد عبد الناصر وتفاقم بشدة في عهد السادات الذي أطلق يد الأخوان والجماعات الإسلامية للتخلص من الشيوعيين والناصريين, فأشعلوا نار الفتنة الطائفية كما انقلبوا عليه وقتلوه. وجاء عصر اللا مبارك ليزداد العنت وتنمو الفتنة وتتعدد المجازر وتحرق الكنائس دون عقاب رغم معرفة الجناة.
إبان فورة المصريين التي كنا نظنها ثورة وربيع عربي, قبل أن نكتشف الحقيقة المرة أننا كنا ألعوبة في يد القوي الاستعمارية لإعادة التفسيم بمعاونة الأخوان الخونة الذين ركبوها, تجلت الروح المصرية الحقيقية بين المسلمين والمسيحيين من محبة وتآخ لم يدم طويلا بعد استيلاء الأخوان علي السلطة, وعادت ريمة لعادتها القديمة, وعادت المجازر أكثر عنفا وحرق الكنائس أكثر عددا وتهجير المسيحيين من قراهم لأتفه الأسباب المختلقة.
والآن في عهد السيسي الذي جاء يإرادة مصرية حقيقية
نأمل في عودة المحبة والوئام الذي مازال سرابا. لازالت الكنائس المهدمة والمحروقة دون إعادة بناء, ومازال التطرف الديني وإهانة الدين المسيحي وتكفير المسيحيين علي الفضائيات قائما. وكثر اللغط والفتاوي بتحريم تهنئة المسيحيين الكفرة بأعيادهم. ولكن بصيص أمل يطل علينا ونتمني أن يسود وينتشر, بدأ بزيارة السيسي كأول رئيس جمهورية يذهب للكاتدرائية لتهنئة المسيحيين بعيدهم, كما ذهب للأزهر في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يطلب منهم إعادة النظر في الخطاب الديني وتصحيح مفاهيمه وعدم الإساءة لأديان شركاء الوطن. بصيص من الضوء بدأ كقبس ينير الظلمة الحالكة نرجو له أن ينتشر حتي يعم نهار المحبة والمواطنة والمساواة, وإن غدا لناظره قريب.