أغلب الظن أن المتعصبين سيفرحون جداً عند قراءة هذا العنوان الذى تحض قراءته السطحية على هدم الكنائس، ولا بأس ببناء المدارس، لكن بشرط أن تكون مدارس إسلامية.
فهؤلاء المتعصبون هم أنفسهم الذين يعرقلون مشروع قانون دور العبادة الموحد، ويسممون آبار الوحدة الوطنية ويروجون ثقافة الكراهية.
لكن سيخيب ظن هؤلاء عندما يعلمون أن صاحب هذه المقولة المدهشة ليس مسلماً، وإنما هو كبير أقباط مصر البابا كيرلس الرابع بجلال قدره.
وبالطبع فإنه من غير المتصور – عقلاً- أن يحرض بابا كنيسة الإسكندرية، وبطريرك الكرازة المرقسية، على هدم دور العبادة التى تهفو إليها أفئدة رعاياه من المواطنين المصريين.
وإنما المقصود أن هذا الزعيم الروحى الجليل، والمواطن المصرى الصميم، يعطى الأولوية لبناء دور العلم عن بناء دور العبادة، مسيحية كانت أو إسلامية، باعتبار أن التعليم هو طوق نجاة البلاد والعباد من التخلف.
وتزيد قيمة هذه الكلمات النورانية إذا عرفنا أن عمرها أكثر من قرن ونصف القرن. فقد كان قداسة البابا كيرلس الرابع (١٨٥٤-١٨٦١) هو بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية العاشر بعد المائة.
لكن رغم قصر المدة التى قضاها على رأس الكنيسة المصرية فإنه استحق لقب «أبو الإصلاح». وهو لقب لم يسع للحصول عليه وإنما استحقه لأعماله وإنجازاته العظيمة ليس للكنيسة القبطية فقط وإنما لمصر كلها.
ويكفى أن نتذكر أن سعيد باشا، والى مصر وقتها، طلب منه أن يترأس بعثة دبلوماسية إلى إثيوبيا سجلت أول زيارة يقوم بها رئيس الكنيسة القبطية لـ«بلاد الحبشة» – كما كانت تسمى آنذاك- فى ديسمبر ١٨٥٦. وكانت هذه الزيارة مثار جدل واستغراب شديدين لأن ضعاف العقول وقصيرى النظر هم الذين اندهشوا – منذ ١٥٤ عاماً- من أن يكون رجل دين مسيحى مبعوثا للوالى المسلم!
بينما كانت هذه اللفتة – هى ذاتها- إحدى الإشارات المبكرة على أن مصر – حتى فى أحلك الأوقات- كانت أسبق من غيرها من البلدان فى زرع بذور الدولة المدنية التى يناصبها بعض المصريين العداء ونحن فى الألفية الثالثة وبداية القرن الحادى والعشرين!
وما ذكّرنى بهذه المقولة الرائعة لقداسة البابا كيرلس الرابع – الذى يجب أن يحفظ جميع الأطفال المصريين اسمه عن ظهر قلب، المسلمون منهم قبل المسيحيين- حدثان فكريان.
الأول لقاء نظمته الهيئة القبطية الإنجيلية بالإسكندرية عن الخطاب الثقافى – والخطاب الدينى – وتأثيره على التماسك الوطنى. وفى هذا اللقاء الذى شارك فيه لفيف من رجال الدين المسلمين والمسيحيين تحدث عدد من المفكرين والمثقفين المصريين المرموقين وكان الحوار بينهم وبين الحاضرين ملهماً ومنيراً بكل ما فى الكلمة من معنى.
وكانت خلاصة هذا الحوار الراقى ضرورة تكاتف الجهود الوطنية المصرية - على اختلاف وتنوع منابعها ومشاربها السياسية والفكرية والأيديولوجية - من أجل بلورة خطاب ثقافى عصرى، وخطاب دينى مستنير، فبدون ذلك فإن الخطابات الثقافية والدينية المتخلفة والمتعصبة والمتزمتة ستحتل الساحة وتسيطر على المجتمع، وسيؤدى ذلك التراجع المخيف لقيم العقلانية والاستنارة والتسامح إلى خلق البيئة المواتية لفيروس التفكك الذى يستهدف ضرب التماسك الوطنى، على جميع الأصعدة.
■ ■ ■
أما الحدث الثانى الذى ذكرنا بـ«أبو الإصلاح» البابا كيرلس الرابع فهو انعقاد المؤتمر السنوى الثالث لجماعة «مصريون ضد التمييز الدينى»، بعد المؤتمر الأول عام ٢٠٠٨، الذى رصد ظاهرة التمييز الدينى وسعى إلى تفسيرها بصورة علمية بعيداً عن الغوغائية من جانب والتبريرية من جانب آخر.
وأيضا بعد المؤتمر الثانى عام ٢٠٠٩ عن «التعليم والمواطنة» الذى رصد أشكال الطائفية والتمييز فى التعليم.
هذا العام اختارت مجموعة «مصريون ضد التمييز الدينى» الإعلام المصرى ليكون محور مؤتمرها السنوى الثالث. وكما تقول مطبوعات المجموعة فإنها «قررت أن تسلط الضوء على موضوع الطائفية فى الإعلام المصرى استشعارا منها أن تصدى المجتمع المصرى لمخاطر الطائفية والكراهية الدينية يحتاج إلى إعلام محترف، نزيه ومسؤول».
وأضاف الدكتور محمد منير مجاهد المنسق العام لمجموعة «مصريون ضد التمييز الدينى» أن فكرة تخصيص مؤتمر عن الإعلام ترجع إلى سنتين «لأن الدراسات المقدمة للمؤتمر الأول، عام ٢٠٠٨ أثبتت أن قطاعاً كبيراً من الإعلام المصرى سواء المملوك للدولة أو المستقل عنه يلعب دوراً خطيراً فى إشاعة التمييز الدينى والفرز الطائفى عبر الصحافة الورقية، وعبر القنوات التليفزيونية الأرضية والفضائية، وعبر الصحافة «البديلة» أى الصحافة الإلكترونية والمدونات والمواقع على الإنترنت».
وكان لى شرف المشاركة فى جانب من أعمال هذا المؤتمر المهم بصحبة نخبة من الصحفيين والكتاب وخبراء الإعلام، وكان من حظى أن أشارك فى الجلسة المخصصة لـ«المهنية» الصحفية فى تناول الملفات والأحداث الطائفية، التى تضمنت عرضاً لدراسة حالات للتغطية الصحفية للمسألة الطائفية، فضلاً عن مناقشة صريحة مع الصحفيين المشتغلين بالملف القبطى والمواطنة الذين قدموا ما يمكن تسميته بـ«شهادات واقعية» عن ظروف وملابسات وتحديات تعاملهم المهنى مع تفاصيل هذا الملف السائد، من حيث رؤيتهم وتقييمهم للتغطية الصحفية للمسألة الطائفية، والمشكلات التى تواجههم فى تغطية هذا الملف، ورؤيتهم للحلول والمقترحات للتغطية المحايدة ودعم المواطنة.
وهى مناقشات بالغة الثراء تستحق تناولاً مستقلاً، لكن خلاصتها – باختصار – أن هناك قصوراً مهنياً شديداً فيما يتعلق بهذا الملف (وهو قصور متكرر فى معظم المجالات الأخرى) وأن هذا القصور المهنى المصحوب بقدر كبير من الجهل النشيط – على حد تعبير أستاذنا أحمد بهاء الدين – يؤدى إلى مزيد من التعقيدات التى تمثل خطراً على التماسك الوطنى.
ثم إن هناك نقصاً مروعاً فى المعلومات، سواء من جانب الحكومة أو من جانب المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية وغيرها من الجهات ذات الصلة بهذا الملف، الذى هو أولاً وقبل كل شىء ملف سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى قبل أن يكون ملفاً أمنياً.
هذا النقص بدوره ليس وقفاً على المسألة الطائفية، وإنما نعانى منه فى كل القضايا وجميع المجالات، الأمر الذى يتطلب مواصلة الضغط من أجل إصدار قانون ديمقراطى يلبى حق المواطن المصرى – وليس الإعلامى فقط- فى الحصول على المعلومات.
أضف إلى ذلك أن المناخ الثقافى السائد فى المجتمع يغذى الطائفية على مختلف صورها، وتشارك بعض وسائل الإعلام فى صب الزيت على النار.
ولذلك فإن الملف القبطى لا يمكن معالجته على أرضية طائفية، وإنما على أرضية ديمقراطية وفى كنف الجماعة الوطنية.
وكل هذا يعيدنا إلى المقولة الرائعة لقداسة البابا كيرلس الرابع «اهدموا الكنائس.. وابنوا المدارس»، بالمعنى العميق الذى قصده «أبوالإصلاح»، ألا وهو إيقاف السباق السخيف على بناء المساجد والكنائس فى وقت يحتاج فيه المصريون إلى مدارس ومستشفيات ومصانع ووحدات إنتاجية، وإيقاف التلاسن العبثى بين أبناء الوطن الواحد ليس حول جوهر الدين، وإنما حول قشوره ومظاهره الخارجية فى ملاسنات عقيمة تجتر أسوأ ما فى تراثنا وتتجاهل الاحتياجات الحقيقية للمصريين والتحديات الخطيرة التى تواجه الوطن والأمة.
■ ■ ■
لكن السؤال الأهم هو: ماذا لو أن نفس كلمات البابا كيرلس الرابع جاءت اليوم على لسان أحد رجال الدين، مسلماً كان أو مسيحياً، فماذا سيكون رد فعل المجتمع.. بل النخبة أيضا؟!
أليست المقارنة مع «تاريخ» عمره ١٥٤ عاماً مضت.. جارحة ومستفزة.. إذا كان هناك - ولايزال لدينا - بقية من دم؟!
hagrassaad@hotmail.com
نقلا عن المصري اليوم |