أشرف دوس
منزل بسيط، يلاصق الفقر ويسامره، جدرانه واطئة، ممرَّغة باللون البني الغامق من شدة تكالُب البؤْس عليه، وهو منزل يستحقُّ الالتصاق بالمكان والزمان؛ لما فيه من أُناسٍ طيِّبين صاحبه يعمل بأحد محلات المأكولات في المدينة، يخرج صباحًا قبل أذان الفجر
برفقة دراجته البخارية ويستمر في العمل طول اليوم، ليعود في المساء والعتمة تنشبُ مخالبَها بالنهار والضوء، يتقاسمُ الحزن والشجار المستمر واليومي السكن مع العائلة في معظم أيام السنة حتى بدا لنا ونحن أطفال أنَّه جزءٌ من العائلة، يحاط البيت بصمتٍ غريب، رغم الحركة الدائبة المتواصِلة من المقيمين فيه
و يُروى أنَّ رب الأسرة الشيخ سيد رجلٌ مبارك معطى، وأنَّه يتمتَّعُ بسبب تقواه ووَرَعِه بقُدْرات خياليَّة في معالجة الأمراض، مَهْمَا كان نوعُها؛ لأن البركة وصلتْ إليه من والده الذي ماتَ قبل عدة سنوات، فكانَ الناسُ بدافعِ الأُسْطورة التي يشكِّلها كلُّ مريضٍ تماثَلَ للشفاء بطريقته ورؤيته الخاصة، يدعمون نظرية البركة التي يتميَّز بها هذا الرجل، فإذا أضفنا سببًا آخرَ، وهو أنَّ الشيخ لم يتقاضَ طوال حياته أجرًا أو يقبل هَديَّة ممن عالجَهم، توطدتْ أسطورة البركة التي أرساها الناس بطريقة رفعتِ الرجل في نظر الجيران
، ومَن حولَهم إلى مصاف الأولياء، والغريب الذي غذَّى الأسطورة كلَّها أمرٌ لَمَسْناه بالحقيقة، ولا يمكن إنكاره، وهو يدعو للدهشة والتأمُّل والبحث والاستقصاء، وهو أننا لم نكن نحفظُ شكلَ الرجل بوضوحٍ كامل، فإذا ما حاولنا وصفَه عجزنا رغْم إدراكنا السابق أننا لن نجدَ أيَّ عناءٍ في الوصف.
وحين انتقلَ الرجل إلى جوار ربِّه، أُسْنِدتْ مهمَّات البركة إلى أبنائه، وزوجته، وحين ماتتْ زوجته انتقلتْ مهمَّات البركة إلى زوجة ابنه، ثم إلى ابنته، إلى أن برزَ جيلٌ لا يعرف الرحمة، ولا يعرفُ الحب، ولا يعرفُ البركة.