عشت فى الولايات المتحدة عاما كاملا لأسباب متعددة لم تكن كلها سعيدة؛ ولكن كان هناك أيضا كثير من الفائدة العلمية والفكرية. جزء معقول منها كان مصدره التلفزيون والبرامج الحوارية الكثيرة مع حائزين لجائزة نوبل، أو كبار المحللين السياسيين، أو الساسة الذين سيصيرون نجوما فى الكونجرس أو فى البيت الأبيض، وبالطبع كان هناك نجوم الفن والأدب. ولفت نظرى فى كل هذه الحوارات الساخنة أحيانا والباردة أحيانا أخرى، أن أحدا ممن كان يجرى الحوار معهم لم يحمل كتبه، أو الكتب الذى قرأها، لكى يبرهن بها على نقاط سوف يثيرها فى المناقشة. ما جعل الفكرة تلح على رأسى كانت الحلقة الأخيرة من حوارات العام الذى انصرف، للأستاذ محمد حسنين هيكل مع الأستاذة لميس الحديدى فى برنامجهما الفريد من نوعه بين كل البرامج الحوارية. كان لافتا للنظر أن أستاذنا كما فعل فى حلقات سابقة يضع إلى جانبه مجموعة من الكتب، عادة ما تكون باللغة الإنجليزية، والتقارير أحيانا أيضا. وهو يستخدمها أثناء الحوار، ويتعمد قراءة أجزاء منها، مترجمة بالطبع أى أنها جاهزة للعرض قبل إجراء الحوار. الأستاذ هنا يضع فارقا كبيرا بينه وبين الآخرين من الصحفيين، فهو ليس شره القراءة فقط، ولكنه أيضا لآخر ما أصدرته ماكينة نشر الكتب فى لندن ونيويورك. وهذه ليست أدوات هيكل الوحيدة فى العرض التلفزيونى، فهناك بالإضافة إلى ذلك أبيات الشعر التى تنسال عذبة وسط قصص عن رحلات إيطالية يحضرها بالصدفة أمير قطر وزوجته، أو إفشاء أسرار لقاء خاص مع شخصيات مثل المهندس أحمد عز. وهناك أيضا ابتسامات، وعلامات اندهاش، وغمز ولمز لأن هناك ما هو أكثر لم يتم البوح به بعد. ولا بأس أحيانا من مفاجأة المحاورة الذكية عما إذا كانت تعرف بدول «البريكس BRICS»، فإذا ما كان تلعثم فى المعرفة، فإنه يفسر ببطء وحرفا بعد حرف، يقول الأولى من أسماء الدول المشاركة باللغة الإنجليزية.
البرنامج ممتع بلا شك، وفيه قدر كبير من المهارة على مسرح يملؤه شخص واحد، يرسل الرسائل ذات اليمين واليسار بقدر كبير من الزهو أطال الله عمره وأعطاه الصحة والعافية. كل ذلك يضيف معلومات ومعرفة، ولكنه أحيانا يغرس بذور الشك فى كل ما يقال عندما يأتى الأمر قريبا من الرئيس السادات، حيث يكون «الحذف» مشوها للحقيقة التاريخية. نقطة البداية هنا بعد استعراض كتاب كيسنجر عن «النظام العالمى» وتقرير الكونجرس عن استخدام التعذيب فى وكالة المخابرات المركزية، إذا بالأستاذ يقفز فجأة إلى موضوع الرئيس السادات معلنا وبجدية بالغة مصحوبة بأسف بالغ أن الرجل تم اغتياله مرتين: مرة على يد الرئيس الأمريكى جيمى كارتر فى كامب دافيد؛ ومرة على يد خالد الإسلامبولى على منصة العرض فى السادس من أكتوبر. وهكذا دخلنا إلى الموضوع وفيه قتل واغتيال، ولكنه لم يكن من كارتر وإنما كان من الأستاذ هيكل الذى قال آخرون إنه اغتاله من قبل فى «خريف الغضب»، وفى تقديرى أن الاغتيال حدث فى كل مرة جرى فيها الحديث عن حرب أكتوبر وتحرير الأراضى المصرية المحتلة عندما وصفت بأنها الحرب التى أضاعتها السياسة (أى الرئيس السادات).
كيف جرى اغتيال السادات فى كامب دافيد تم شرحه عندما مد الأستاذ يده وسحب من بين صف الكتب سابق التجهيز لكى يقلب فى صفحات كتاب «لورانس رايت» الأخير «ثلاثة عشر يوما من سبتمبر: كارتر، بيجين، والسادات فى كامب دافيد». يقلب الأستاذ فى صفحات الكتاب، ولكنه فجأة يخرج من قبعته ترجمة جاهزة لجزء من الكتاب عن اليوم قبل الأخير من أيام كامب دافيد. القصة هنا معروفة من قبل وسبق نشرها فى كل ما كتب من مذكرات عن هذا المؤتمر التاريخى، وهى أن الرئيس السادات عندما وجد أنه لن يحقق أهدافه من المؤتمر قرر الرحيل، وطلب من أعضاء الوفد المصرى إعداد حقائبهم، وهى عملية لم تكن بعيدة عن الأعين الأمريكية. بعد ذلك جاء الرئيس كارتر ليس فقط معترضا ولكن أيضا مهددا بأن انسحاب مصر سوف يعنى ضررا بالغا بالعلاقات المصرية الأمريكية، وثمنا فادحا تدفعه مصر فى محيطها الإقليمى. الأستاذ هيكل قرأ من ترجمته كل ما قال به كارتر للسادات، ضاغطا على الكلمات، والتهديدات، منتهيا بالعجب والدهشة والغضب فى لحظة درامية واحدة توحى بأن السادات قبل من الكلمات ما كان ينبغى له أن يقبل به، بل إنه قبل من التنازلات ما كان عليه أن يقبل به، وكل ذلك مقابل وعود سوف يفى بها، أو لا يفى، كارتر بعد إعادة انتخابه.
هكذا كان حديث الأستاذ هيكل ناقلا عن كتاب لورانس رايت؛ والنقل صحيح ولكنه ناقص، على طريقة «لا تقربوا الصلاة»!. فلماذا قرر السادات الرحيل لم ترد، وما أخذه مقابل مناورة الرحيل لم يذكره الأستاذ وهو واضح وضوح الشمس فى الكتاب الذى قرأه، وقرأته أيضا. فما دفع الرئيس السادات لاتخاذ هذه الخطوة كان إصراره على إزالة المستوطنات الإسرائيلية من سيناء، لأن بقاءها كان يعنى أن الاحتلال الإسرائيلى مستمر؛ وهو الأمر الذى أعلن بيجين أن يده تقطع ولا ترحل المستوطنات. كان بيجين قد التزم فى برنامج حزبه، وفى الكنيست، وأمام الرأى العام الإسرائيلى، بأن تبقى هذه المستوطنات لأنه من ناحية كان يريد قطع الطريق على مبدأ «الانسحاب الكامل» من سيناء، ومنع عملية إزالة المستوطنات من أن تكون سابقة لغيرها فى الأراضى العربية المحتلة.
كان ذلك هو الموضوع الذى قرر السادات من أجله الرحيل، وكان رد كارتر ثلاثيا: منع السادات من الرحيل ليس فقط بالتهديد والوعيد الذى قرأ هيكل ترجمته، ولكنه بوعد صريح أن تؤيد الولايات المتحدة المطالب المصرية فى المستوطنات وغيرها، وهو ما فعله بعد تهديد مماثل لبيجين كان فيه الموقف الأمريكى صريحا فى ضرورة إزالة المستوطنات. وطبقا للورانس رايت، والحقيقة فى كتابات ومذكرات أخرى قرأها هيكل بالتأكيد، أن ديان وزير الخارجية، ووايزمان وزير الدفاع، أصابهما القلق على العلاقات الإسرائيلية الأمريكية فما كان من وايزمان إلا الاتصال بشارون وعرض الأمر على الوجه التالى: إن هناك اتفاقية سلام جاهزة يقف فى طريقها إزالة المستوطنات التى يصمم عليها بيجين. هنا اتصل شارون ببيجين وأخبره بتأييده إزالة المستوطنات، فما كان من بيجين لإنقاذ ماء الوجه إلا أن طلب عرض الأمر على الكنيست الذى كان يعرف جيدا أنه سوف يوافق على إزالة المستوطنات.
كان هناك ثمن إذن فى العملية التفاوضية لتوقف السادات عن الرحيل، بل إن من يعرف قدرات السادات، وهيكل يعرفها جيدا، يعلم أن ذلك كان تحديدا ما يريده وهو أن يكون الانسحاب الإسرائيلى كاملا عسكريا ومدنيا، وفوق ذلك خلق مسافة فى العلاقات الإسرائيلية الأمريكية تمد مصر فيها قدم. لماذا حذف الأستاذ هيكل هذا الموقف الأمريكى من عرضه، أم أن اغتيال السادات لا يكون إلا بنصف الحقيقة؟!
نقلا عن المصرى اليوم