الأقباط متحدون - بالفيديو .. مرض نادر يقيد شقيقتين بالسلاسل11 عاما
أخر تحديث ٠٨:٣٥ | الاثنين ٢٩ ديسمبر ٢٠١٤ | ٢٠كيهك ١٧٣١ ش | العدد ٣٤٣٠ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

بالفيديو .. مرض نادر يقيد شقيقتين بالسلاسل11 عاما

 مرض نادر يقيد شقيقتين بالسلاسل11 عاما
مرض نادر يقيد شقيقتين بالسلاسل11 عاما

اﻷم: لو سبتهم ياكلوا بعض..

مستشفى حكومي يشخص في 3 دقائق.. واستشاري: لو فرويد ميقدرش في ساعتين

الأم أثناء قيامها بربط السلسلة لابنتها الصغرى أميرة

كان الأمر مجردًا من أي شيء، فقط قصة إنسانية عابرة حكاها صديق في جلسة ليلية عن مشاهداته في بحث الأسر الفقيرة "الأولى بالرعاية" في قرى مركز الصف-جنوب الجيزة، قال إن فتاتين مقيدتين بالسلاسل تأكلان وتشربان وتقضيان حاجتهما في مكانهما، لكن لحظات مفاجئة من القوة الطاغية تنتابهما مصاحبة لحالة هياج تقومان خلالها بنزع السلاسل وتنهش كل منهما جسد الأخرى.. اعتبر صديقي حديثه قصة عابرة، وصمت.. طلبت منه دليلاً بالقرية وذهبت إلى هناك.

في شارع عبد المحسن رزق –قرية عرب القميعي– التابعة لمركز الصف، يقع منزل أسرة السيدة فوزية محمد عبدالمحسن-50عاماً- والدة الفتاتين، للمنزل بوابة حديدية قديمة خضراء اللون تتوارى خلفها ملامح الفقر المدقع الذي تحياه أسرة تُسلسل ابنتيها "حسنية، أميرة" بالقيود، لتصبح قضبان الحياة أشد قسوة، والمنزل زنزانة أبدية يتلخص قهرها في وجه الأم.

إلى جوار الباب الرئيسي، يقع حوض أسمنتي تعلوه "حنفية" للشرب، "والأغراض الأخرى"، والحوض ليس له جهة صرف سوى "حَلّة" تنزح بها "فوزية" المياه حال تساويها مع حافته، وعلى اليمين غرفة صغيرة للنوم، تتقدمها مساحة خالية لاتتجاوز "مترا ونصف المتر" للمعيشة، ويجاورها بابٌ لغرفةٍ من داخلها غرفتان، والغرف الثلاث تعرّفها فوزية بـ"الدفانة"، وتشترك في سقف خشبي حديث البناء –تبرع به فاعل خير.

"الدفانة" هو مكان إقامة "حسنية عيد عبدالرازق" وشقيقتها "أميرة"، بعد رحيل والدهما منتصف عام 2011 بـ"مستشفى الصحة النفسية بحلوان"، للشقيقتين غرفتان يفصلهما جدار به فتحة تشبه النافذة لكنها ليست مغطاة بأي شيء، تقول فوزية -إنها سميت الدفانة بسبب دفن السلاسل في الأرض بطبقة خرسانية لربط الوالد الذي كان يعاني من الصرع بعد بلوغه سن الأربعين بها، ومن بعده ابنتيه، منعاً لأي اتصال بينهما ينتج عنه "أكل بعضهما البعض، وتقطيع الملابس ورشق من يقابلونه بالأحجار".

-فاعل خير تبرع بسيراميك للأرضية لتسهيل مهمة الأم في مسح "فضلاتهما"
داخل إحدى الغرفتين، بدت حسنية عيد عبدالرازق -20 عامًا- الابنة الكبرى، ذات البشرة السمراء الداكنة، والشعر الأجعد القصير، والجسد الذي تحسبه متورمًا، لولا أن والدتها أشارت إلى " فتاء "يتزايد على بطنها دون أي محاولة للعلاج بسبب فقرها الشديد، جالسة على الأرض المنحوتة ببقايا "سيراميك" تبرع به فاعل خير-ليس رفاهية- كما يبدو الأمر للوهلة الأولى، وإنما لتخفيف عناء الأم في مسح "بول وبراز" الشقيقتين، بحسب قولها.

ومن الفتحة التي تتوسط الجدار الفاصل بين غرفتيهما، بدت أميرة -16عاماً- الشقيقة الصغرى، جالسة القرفصاء، واضعة رأسها بين قدميها كاعتراضٍ ضمني على تجاهل المجتمع لمعاناة أسرة مصلوبة على وجع الفقد، تتقاسم أميرة مع شقيقتها بشرة سوداء داكنة، وشعر أجعد قصير، وتحتفظ بخصوصية الجسد النحيل، وإلى جوار كل منهما سرير ليس عليه شيء سوى قطع من الأخشاب بلا "مرتبة" أو بطانية أو ما يمكّن من النوم.. المفاجأة أن الأم قالت: "مبيناموش"!.

الشقيقتان ذاتا "السلاسل" تشتركان في خاصية الأكل بشراهة شديدة، "لو حطيت أدام كل واحدة فيهم أي كمية أكل بيخلصوه في أي وقت"، بس مصاريفي قليلة ويادوب بتكفيهم"، قالت الأم.

بدأت الأم مهمة "ربط السلاسل" في القدم اليمنى لكل منهما على حدة، وسط استسلام تام لعادة يومية صارت جزءًا من حياتهما، أوضاع السلاسل حسبما ترويها الأم تأتي في "البدء بالقدم اليمنى فإذا بدت عليها علامات التورم، تنتقل السلسلة إلى القدم اليسرى، وبعدها اليد اليمنى ثم اليسرى، وأحياناً تلجأ إلى وضعها بالرقبة"، "أنا بعمل كده عشان بطلع من الفجر ومبرجعش غير بعد المغرب".. هكذا عقبت السيدة فوزية التي تعمل خادمة بحسب الطلب.

غرفة حسنية- يكاد ضوؤها الخافت المنبثق عن لمبة صغيرة يضعف حاسة البصر، قبل الحديث إليها قالت الأم "حسنية بتتكلم بس مدخلتش مدرسة خالص".

عن السلسلة الحديدية قالت الفتاة "مش بتضايقني، وبقطعها وبتخانق مع أختي وبعورها، بس بنتصالح"، مرض حسنية لم يمنعها من الامتنان لأمها " أمي بتجيب لنا اللي احنا عاوزينه"، سألتها عن أمنيتها "طلبها" فأجابت "معرفش بقى"!.

غرفة أميرة في مقابلة الباب الرئيسي، الذي تتسلل منه أشعة الشمس، دون أن تصل إلى رأسها، أميرة تجلس دائماً في وضعية "تنكيس الرأس"، "ارفعي وشك يا أميرة"-قالت أمها، استجابت لدقائق ثم عاودت الاحتجاج بإخفاء وجهها، أردفت الأم قائلة "هي كده على طول، لكنها حين تثور، تقتلع هذه السلسلة من الأرض، وتقطّع أختها"

حسنية كانت تراقبنا من الشرفة التي تتوسط الجدار الفاصل بينهما، سمعت صوت تقاطر "بولها" على "السيراميك"، فأدرات الأم وجهها في خجل.

صمتت "فوزية" التي خطّت الأيام على وجهها تجاعيد الألم حين كنا نتنقل بين ابنتيها في محاولة للتعرف إليهما، وتخطت حاجز الصمت حين طلبنا منها رواية القصة منذ بدايتها ,وإلى أي مدى يمكننا التعرف على تشخيص واضح لحالة الفتاتين، وكيف تحتملان السلاسل طوال الوقت، وماذا يحدث حال غيابها عن البيت.

روت الأم وقد غالبتها الدموع متنقلة بين فقرها ومرض ابنتيها: "أصيب زوجي بعد سن الـ 40، وكان يعمل في مصانع الطوب التي تقع على أطراف القرية، حتى فوجئنا بأنه يخرج إلى الشارع هائجاً كالثور، ويضرب المارة بالأحجار، وقتها كانت حسنية وأميرة في سن صغيرة، واقترح شقيقه الراحل رزق- تقييده بالسلاسل في غرفة "الدفانة"، تجنباً لمشاكله وحفاظاً عليه، ظل هكذا لمدة 19عاماً، قبل أن ينتقل في نهاية 2010 إلى مستشفى الصحة النفسية بحلوان، ويوافيه الأجل هناك بعد 6 أشهر من احتجازه بها".

أميرة كانت كويسة لغاية أولى إعدادي –تستكمل الأم روايتها- لافتة إلى أنها جلست في المنزل إلى جوار شقيقتها "حسنية"، التي ظهرت عليها أيضاً أعراض المرض وهي في سن الحادية عشرة من عمرها.

وتضيف: "تقضيان اليوم بأكمله داخل الغرفتين، ومن الخارج نضع قفلا على الباب حتى لا تخرجان للشارع أثناء غيابي عن البيت"، مؤكدة "استطاعتهما نزع السلسلة من الأرض وكسر الباب في أي وقت، والهروب إلى أماكن خارج القرية، وقد غابت حسنية شهرين قبل كذلك، وعثر عليها خالها أسفل كوبري المنيب".

- قصة "المجرم" الذي تسلق جدار البيت واستغل غياب الأم
قصة غياب حسنية وضعت الأم في مواجهة ماض لاتريد ذكره، قالت فوزية: الغرفتان لم يكن لهم سقف حتى فترة قريبة، وذات يوم بعد وفاة والدهما، عدت من العمل قبل المغرب، ومع دخولي غرفة "البنات" شاهدت قدم شخص تتسلق الحائط المؤدي للشارع، لم أتمكن من اللحاق به، وفجر هذا اليوم استيقظت فلم أجدها -"حسنية"- في المنزل، بحثت عنها داخل القرية دون جدوى، واستمر البحث عنها لمدة شهرين حتى وجدناها أسفل كوبري المنيب.

تقول الأم: "أن أشخاصًا كانوا يستغلون غيابي ويقفزون إلى الغرفة، و..".. أشاحت بوجهها ولم أكمل طلبا للتفاصيل حفاظاً على مشاعرها.

تشير الأم إلى أن "حسنية وأميرة" ممنوعتان من تناول اللحوم، حتى لاتزيد قوتهما، فيتطور معهما الأمر بعد نزع السلاسل إلى "تقطيع لحم بعض"!.

تخرج فوزية لعملها بعد الفجر، قبل خروجها –حسبما تروي- تعد لهما طعامهما، وفراشهما، وتنظف أمكانهما، وحين تعود تغسل لهما آثار الطعام و"البول والبراز"، حسنية وأميرة تتبولان وتتبرزان في ذات المكان الذي تأكلان فيه، وفقاً لروايتها.

يومية الأم في خدمتها 30 جنيهًا، والعمل يأتيها وفق حاجة منازل الأغنياء إلى "خادمة"، لكن أحداً لم يسعف حاجة أبنائها للعلاج، وفي ذلك قالت راوية أحمد قرني –الناشطة الاجتماعية بالقرية- أن الأثرياء ليسوا من أهالي القرية أصلاً، وأن رحلة علاج الفتاتين عمرها 6 سنوات دون نتائج تذكر.

"راوية" التي تملك مفتاح التعامل مع "حسنية وأميرة"، تقول ذهبت بهما مرتان لمستشفى استثماري للصحة النفسية، وقيمة الكشف العالية منعتني من الوصول إلى تشخيص واضح للحالة، والأطباء قالوا لي "الحجز بـ 600 جنيه للفرد، ولم نستطع توفير هذا المبلغ الكبير".

تضيف راوية: "في مستشفى حلوان العام، صرفوا 6 أنواع من الحبوب، لكنها لم تمنع نوبة الهيجان التي تأتيهما، وتوقفنا عن متابعة الكشف بسبب قلة "الفلوس"، وتستطرد قائلة: "آخر مرة روحنا المستشفى من 3 سنين".

أثناء التنسيق لرحلة التشخيص والعلاج قالت الأم "خايفة يتحجزوا مني،ميهونوش عليّ"..فأمضينا 3 أيام حتى اقتنعت.

اقتبسنا من صبر والدة الفتاتين نوراً يحمل إلى ضرورة تقصي تشخيص الحالة، والوقوف على علاج يمنحها قدراً من الأمل في زمن عزّ فيه الأمل.. نسقتُ مع الناشطة الاجتماعية "راوية" في اصطحابهما" حسنية وأميرة" إلى مستشفى عام للصحة النفسية، وآخر استثماري للوصول إلى تشخيص واقعي كخطوة أولى للعلاج، والمقارنة بين التشخيصين، والحصول في أسوأ التقديرات على "كارنيهات إعاقة" تفيد في صرف معاش شهري للأم التي لم تعد قادرة على تحمل "خدمة البيوت".

في اتصال هاتفي مع السيدة "فوزية" مساء الثلاثاء الماضي، أقنعتها بأهمية الذهاب للمستشفى لتوفير علاج بديل عن "السلاسل والأقفال"، لكنها قبل نهاية المكالمة في عبارة ممهورة بالشجن قالت: "خايفة يتحجزوا مني، ومقدرش استغنى عنهم، مش هيهونوا عليّ".

التنسيق مع الأم استمر 3 أيام، وفي صباح اليوم الرابع "السبت الماضي" انطلقنا معاً "أنا والأم والفتاتان وراوية وشخص آخر قريب لهما من القرية" إلى مستشفى "ح.العام للصحة النفسية"، على البوابة الرئيسية للمستشفى استوقفنا فرد أمن -"شاب عشريني يرتدي زياً "كحلياً"- أشبه بزي الشرطة، سألنا مباشرة " كشف ولا زيارة".. قلنا له "كشف"، فعاود سائلاً" أول مرة؟"..فقلنا له "نعم أول مرة"، قال "البنتين عندهم أد إيه"..أخبرته راوية أن حسنية 20 وشقيقتها 16، فقال: "لا مينفعش..كده واحدة بس اللي هتكشف، لازم تبقى أكبر من 16، فقالت له اعتبرها 18، طلب فرد الأمن بطاقتيهما، فأخبرته أنهما بلا "بطاقات شخصية".. فسجل بياناتي وقال لي: "لا تقل في الداخل إن إحداهما 16 عاماً..عشان تقدر تكشف عليها".

- الكشف 3 دقائق.. والتشخيص "صرع وتخلف عقلي"
من الداخل يتسع المستشفى لـ 3 مبان، على يسار البوابة الرئيسية يقع مبنى العيادات الخارجية "أطفال –مراهقون"، ويتوسطها مبنى الإدارة، على يمينه عنبر "المرضى"، وفي مواجهته مبنى "العيادات الخارجية للكبار".

دخلنا، فبادرنا فرد أمن –خمسيني- يرتدي زيًا مماثلاً لنظيره القائم على البوابة الرئيسية بأن الطبيب لم يأت بعد، وأن علينا الانتظار لمدة ثلث ساعة، واستطرد قائلاً "الدكتور بييجي 10، وهو من سيوقع على تذكرة الدخول".

كانت "فوزية" وابنتاها ما يزلن في السيارة، لم ينزلن بعد، و"فوزية لم تنطق طوال الطريق الممتد من قريتها حتى المستشفى قرابة الساعة، بكلمة واحدة، أما حسنية وأميرة فلم تلتفتا يميناً أو يساراً طوال الرحلة".

في العاشرة والربع، كررنا محاولة الدخول فأذن لنا فرد الأمن، طالباً إحضار الحالة "حسنية وأميرة"، نزلت الأم مع ابنتيها، وفاجأتنا "حسنية" بالتبول جالسة في فناء المستشفى فور نزولها.

إلى استراحة المرضى حيث لافتة "أنا إنسان ومن حقي اتعالج أول محس إني تعبان" -هكذا كانت مكتوبة- جلست الأم وابنتاها على "دكة" مجاورة للحمام، بضع دقائق حتى بدأ الممرض في النداء على المرضى بحسب ترتيب التذاكر، وفي الحادية عشرة جاء دورنا في الدخول إلى غرفة الطبيبة، حيث مكتب يقابله ثلاثة مقاعد ملتصقة وفقط، جلست عليهم الأسرة، واستمر الكشف لفترة لم تتجاوز الـ 7 دقائق حسبما رصدنا على الساعة.

"أول مرة ييجوا؟"، سألت الطبيبة "أ. ع" بعد اصطفافهم على المقاعد ثلاث في مواجهتها، فأجابت راوية "أيوة"، وسألتنا عن أسباب تواجدنا "أنا وراوية" فقلنا لها نحن قائمون على رعايتهم.

واصلت أسئلتها عن الأعراض التي تظهر على "حسنية وأميرة"، فقالت راوية: "هما بيجيلهم صرع ومسلسلين في البيت، فأبدت الطبيبة دهشتها "مسلسلين إزاي"! فأردفت راوية "مقيدين يعني".

طوال مدة الكشف ظلت الطبيبة تنظر إلى ورقة الروشتة لم تنتبه الطبيبة إلى الفتاتين إلا نادرا، كما لم تكن تناقش الأم في كلامها لمعرفة كل أعراض الفتاتين.

"بتجيلهم نوبات صرع؟"..تستطرد سائلة، فتجيب الأم "أيوة"، وتتدخل "راوية": "أبوهم كان مصاب بنفس المرض، ومات في المستشفى، وجبناهم من سنين هنا، وليس معنا علاج".

قالت الطبيبة "بيتكلموا؟؟"..فأردفت راوية "أيوة"، فنادت الطبيبة "أميرة..أميرة.." دون رد منها، قالت الأم ردي يا أميرة.. فنطقت "إيه"، سألتها الطبيبة: "بتشتكي من إيه"، أجابت أميرة ولم تزل رأسها إلى أسفل "مفيش حاجة".

شرعت الطبيبة مباشرة في كتابة العلاج، قاطعتها: "ماهو التشخيص يادكتورة؟"..فقالت "صرع مع تخلف عقلي"، واصلتُ الأسئلة: "هل هي حالة نادرة؟" فأجابت: "لا مش نادرة "..، نقلت لها رواية الأم في زيارتنا الأولى للمنزل، بأنهما حين تنزعان السلاسل، تتشاجران حد تقطيع الأجساد، فصمتت دون رد، وبعد دقيقتين قلت لها: "هل هناك عامل وراثي" فاكتفت بكلمة "أكيد"!. واستمرت في كتابة العلاج، طلبت من الأم حكاية قصتها للطبيبة، لكنها خجلت إزاء تركيز الأخيرة في كتابة العلاج" 6 أنواع من الحبوب"، وتوصية بمتابعة بعد أسبوعين، فصرفناه من صيدلية المستشفى وانصرفنا.

الغريب في الأمر أني حين نبهت الطبيبة لقدرة حسنية على الإدراك والنطق، لم تتحدث إليها على الإطلاق..

عطفاً على تشخيص المستشفى العام للصحة النفسية، قال د.سامي حجاج نائب مدير مستشفى العباسية، أن التخلف العقلي بعد البلوغ يصيب بالعجز، في الوقت الذي دخلتا "حسنية وأميرة" على قدميهما حتى حجرة الطبيبة.

حول أسباب التخلف العقلي ذهب حجاج إلى مناطق أكاديمية بحتة كـ نقص هيرمون تفرزه الغدة الدرقية، أو مشاكل في الولادة، مشيراً إلى أن مستشفى "العباسية" لاتقبل حالات التخلف العقلي، وإنما تقبل الاضطرابات النفسية فقط كـ"مدعي النبوة، أو حالات الهوس، أو الانفصام".

حجاج الذي نفى وجود إحصاء رسمي لمرضى التخلف العقلي بمصر، شدد على ضرورة الكشف العضوي أولاً حيال مثل هذه الحالات.

في المستشفى الخاص.. الكشف 6 دقائق.
ساعةٌ أخرى حتى وصلنا للمستشفى الاستثماري الذي يقع في مركز العياط، إلى هناك دخلنا من بوابة رئيسية أيضاً، لكن السيارة لم تدخل معنا هذه المرة، عن يمين البوابة وعلى بعد ما يقارب ـ"متر" يبرز مدخل ضيق يتسع بالكاد لفرد واحد، وممر يتضمن "دكة استراحة" لأربعة أفراد، وينتهي بـ" مكتب قطع التذاكر" على يمينه، استراحت الأسرة، ودخلنا "أنا وراوية "،أخبرنا الموظف –الثلاثيني-أن التذكرة للفرد تكلفتها 60 جنيها فقطعنا تذكرتين، وأعطيناهما للممرض الذي يجلس في طرقة ممتدة أمام غرفة الطبيب، "إنتوا رقم 18 يعني هتستنوا ساعتين وربع"..هكذا أخبرنا الممرض.

في الثانية ظهرا، جاء دور "حسنية وأميرة " في الكشف، دخلنا معهما حيث غرفة بها مكتب الطبيب يعلوه جهاز قياس الضغط، وأمامه مقعدان متقابلان، وثالث في مواجهته، وعن يساره سرير لم تطأه إحداهما.

اختلف المشهد في المستشفى الاستثماري عن نظيره العام في ساعات الانتظار نظراً للزحام الشديد، وجهاز قياس والضغط، وأسئلة الطبيب، وقد أخبرني موظف الأمن-العشريني- الذي يرتدي زياً عادياً أن المستشفى يستقبل يومياً مابين 60 أو 70 حالة.

في المستشفى الاستثماري استمر الكشف 11 دقيقة و38 ثانية، بزيادة تبلغ خمس دقائق عن نظيره العام، بدأ الطبيب "و. م" بالسؤال عن أعمارهما، فقالت راوية "20، 18"، وقلت له إن المرض بدأ بعد بلوغ كل منهما سن الحادية عشرة، سأل "عملتم لهم اختبار ذكاء ولا معملتوش؟"، فأجابت راوية "لأ"..وجه سؤالاً آخر للوالدة "فوزية": "بيفهموكي كويس ولامبيفهموش".. قالت "لأ..مبيفهموش".

طلبت منها أن تروي له حقيقة تشاجرهما معا، وتمزيق الملابس، وانتزاع السلاسل، فقالت له "ساعات وساعات"، لم ينتبه وسأل: "هل عندهم ضغط أو سكر؟" ..قالت الأم: "لا".

لفتت راوية نظر الطبيب الذي لم يسأل مطلقاً عن صحة الأبوين وما إذا كان هناك سبب وراثي، إلى أن الوالد كان مصاباً هذا المرض، حتى توفي، لكنه عرج على إشارتها متطرقاً إلى حديث مع "حسنية" على النحو الآتي: "إزيك ياحسنية.. أخبارك إيه؟". ."لم تجب"،.. اسمك حسنية إيه؟.. أجابت: حسنية عيد، بلدكم إسمها إيه ؟..مش عارفة..قال "مش عارفة بلدكم إسمها إيه..؟"..قالت "الحبة السمرا،.. كرر سؤاله فكررت "الحبة السمرا..!"وأردفت قائلة: "مش عارفة"..، سألها "النهاردة يوم إيه؟".. فقالت "الأربعاء"، "طب أنا بشتغل إيه، معايا سماعة أهه يبقى أنا بشتغل إيه؟..فقالت: "الحبة السمرا.. عرب القميعي"..

كرر سؤاله "جايبينك هنا عشان أكشف عليكي يبقى أنا بشتغل إيه..؟..ردت حسنية "دكتور".!، بعدها طلب من أمها تعرية ذراعها لقياس الضغط، وانتقل إلى أميرة مكرراً نفس السيناريو "إزيك يا أميرة..إزيك".. لم ترد على الإطلاق.

أخبرته رواية أنهما منفصلتان، كل واحدة في غرفة، ويبدو أن اكتئاباً أصاب أميرة فجعلها تجلس دائماً منكسة الرأس،..أومأ الطبيب برأسه وقاس لـ"الفتاة" الضغط وشرع في كتابة العلاج..

أجرى الطبيب كشفه في 6 دقائق، وكتب علاجه الذي تكون من "نوعين من الحبوب" في صمت لمدة 3 دقائق، ثم استطرد قائلاً: "يمشوا ع العلاج ومتقلقوش لو ناموا، وتجيبوهم السبت الجاي".

سألته: "هل هذا صرع؟"، فقال لا..ده تخلف عقلي، قلت والعامل الوراثي إلى أي مدى تأثيره؟.. فقال "مؤثر طبعاً"..، أخبرته أن لهما أخت "وسطى" تزوجت في الثالثة عشرة من عمرها دون أن يصيبها شيء..فقال مش شرط، فاستطردت "هل هذا تخلف عقلي طبيعي كالحالات المنتشرة في مصر، أم هما حالة نادرة؟"..قال في إجابة مقتضبة..لأ طبيعي!.

نقلت له رواية الأم عن القوة المفرطة التي تأتيهما في لحظة الهياج، والأكل الشرِه، وعلاقتهما بالمرض،.. لم يجب إجابة واضحة، واستطرد قائلاً" الأهم أن يهدأوا أولاً.. والروشتة فيها رقمي لو فيه أي حاجة اتصلوا عليّ".

المفارقة بين الكشفين في المستشفى العام ونظيره الخاص الاستثماري، تأتي في أن الأولى استغرق فيها الكشف 3 دقائق، وتحدثت الطبيبة إلى أميرة فقط، دون شقيقاتها، ولم تسأل مطلقاً عن أي مرض عضوي، في حين أنها أمضت مايقرب من 4 دقائق في الرد على مداخلاتنا: "أنا وراوية"، أما في الاستثماري فاستمر الكشف 6 دقائق ممهورة بتساؤل عن إصابتهما بأمراض عضوية، دون أن يتطرق إلى العامل الوراثي، وأمضى دقيقتين أو يزيد في كتابة "روشتة العلاج،.. وأجاب عن مداخلاتنا في 3 دقائق.

-د.جمال فرويز أستاذ الطب النفسي ينسف كل التشخيصات: لو فرويد نفسه مش هيشخّص في6 دقائق
توثيق التشخيص، ومنطقية الكشف الذي يستغرق من 3-إلى 6 دقائق، وإيجابية نتائجه، كانت خطوة أخيرة ليطمئن قلب الأم أولاً من ناحية، وتخيب شكوك ثارت بداخلي حول "جدوى تشخيص في بضع دقائق وبلا أسئلة شافية"، هاتفياً تواصلت مع د. جمال فرويز أستاذ الطب النفسي بالأكاديمية الطبية، سألته هل يصاب الإنسان بالتخلف العقلي بعد بلوغه سن الـ 11عاماً، فأجاب بـ" لا"، وأردف قائلاً"هذا التشخيص غير صحيح، لأن هناك تخلفا عقليا أوليا وقد يأتي في الفترة من 3-4 سنوات نتيجة التهابات بالمخ أو غيرها، أما الإصابات بعد هذه السن فإنها تصنف على إصابة عضوية بالمخ نتيجة حادث".

فرويز أضاف لـ"مصر العربية" أن التخلف العقلي البسيط يستلزم فحصاً على النحو الآتي حتى يمكن تشخيصه،"اختبار ذكاء "مدته ساعة ونصف"، مقابلة نفسية "مدتها نصف ساعة "، ثم "أشعة مقطعية"، قاطعته " وماذا عن التشخيص بعد كشف يستمر من 3إلى 6 دقائق؟..فرد بدهشة بالغة "ولا فرويد -مؤسس الطب النفسي- نفسه يقدر يشخصها".

بعد تشخيص د. فرويز، عادت المساعي الحائرة في تشخيص حالة البنتين إلى نقطة الصفر، فقد نسف بثقة التشخيصين السابقين لأنهما لم يكونا على أساس علمي، ربما تكون قبلة "حسنية" وشقيقتها المقبلة هي عيادة "فرويز" بحثاً عن إجابات تشفي حيرة الأم ، وثمة تساؤل آخر طرحه د.فرويز لا يرتبط فقط بـ "حسنية" و"أميرة".. ماذا يفعل غيرهما إزاء مستشفيات عامة وخاصة تشخص في دقائق معدودات، وتصف علاجاً بعيداً عن أي تشخيص علمي!


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter