الأقباط متحدون - العقل في خدمة العاطفة
أخر تحديث ٠٢:٢٤ | الاثنين ٢٩ ديسمبر ٢٠١٤ | ٢٠كيهك ١٧٣١ ش | العدد ٣٤٣٠ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

العقل في خدمة العاطفة

د.عبدالخالق حسين

غالباً ما نسمع من يقول بانفعال شديد عن شخص تصرف بشكل عدواني أهوج بأن لا عقل له، إذ يتوقع من كل ذي عقل سليم أن يتصرف بمثل ما يريد. وبالتأكيد هذا العدواني الأهوج هو الآخر يستغرب منا لماذا لا نقره على سلوكه ولا نتصرف مثله. لماذا لا نرى الأمور كما يراها هو و بمنظاره؟ فالإرهابي الإسلاموي الذي يذبح الأبرياء ويدفن أناساً وهم أحياء لا لشيء إلا لأنهم ليسوا من دينه ومذهبه، يعتقد أن تصرفه هذا هو عين العقل والحق والصواب ولمرضاة الله ورسوله!.
 
ففي كتابه الموسوم: (جاهلية القرن العشرين) للشيخ محمد قطب (شقيق سيد قطب، وأستاذ بن لادن)، يعتبر كل ما أنتجه الغرب من معارف وثقافات وفلسفات وعلوم وطب وجراحة وتكنولوجيا وحضارة وحداثة وغزو الفضاء...وغيره ، وكل ما هو في خدمة الإنسان وصالحه، منذ ما قبل سقراط وإلى الآن، هو جهل في جهل، وأن الثقافة الحقيقية هي الإيمان بالقرآن والسنة فقط . كما وصرح إمام مكة قبل عامين في مقابلة مع تلفزيون بي بي سي العربية، أن غير المسلمين، وحتى المسلمين الشيعة، يجب إنذارهم، ومنحهم مهلة ثلاثة أيام بأن يتحولوا إلى مسلمين سنة، وإلا يجب قتلهم، ومصادرة أموالهم واعتبارها مغانم حرب مع الكفار أو المشركين، وسبي نسائهم وأطفالهم وبيعهم في أسواق النخاسة، تماماً كما كانوا يفعلون قبل 14 قرناً من الزمان، وكما يفعل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في شمال العراق وسوريا الآن. لا شك أن هذه الدعوة فاشية مدانة وفق معايير اليوم، و خطيرة تهدد الحضارة البشرية، يجب الوقوف ضدها بكل حزم، ولكن في نظر الإسلام الوهابي الإرهابي، هي عين العقل والحق والصواب.(1).

وحسب تعريف موسوعة الويكيبيديا: "العقل (mind) هو مجموعة من القابليات المعرفية التي تمكن من الوعي والإدراك والتفكير، والحُكم، والذاكرة، وهي سمة من سمات البشر، ولكن قد تنطبق أيضا على أشكال الحياة الأخرى."
وأرى أنه يجب التمييز بين العقل (Mind) والحكمة (Wisdom). فالحكمة هي أرقى مراحل المعرفة والثقافة، و تميل إلى الحق والصواب والعدالة والفضيلة وفق معايير وثقافة إنسانية كونية وليست وفق ثقافة مجموعة معينة من البشر.

الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم David Hume  (1711-1776)، من فلاسفة عصر التنوير المهمين جداً، قال عن العقل في كتابه (دراسة في طبيعة الإنسان)، ما معناه أن "العقل هو عبدٌ للأهواء والعواطف، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. ولكن لا بد من العقل، فهو مازال ضرورياً، إذ لا خيار لنا فإما أن نختار هذا العقل رغم قصوره، أو لا عقل على الإطلاق".

والعقل موضوع فلسفي معقد، وكثيراً ما نردد أن الإنسان يختلف عن بقية الحيوانات بالعقل الذي هو مصدر التفكير، ومن خلاله نعي الوجود، ونحكم على الأشياء. فإلى جانب وحشية الإنسان، هناك الجانب الإيجابي فيه ألا وهو غريزة الفضول (Curiosity)، أي حب الاستطلاع، الغريزة التي تدفعه للمعرفة واكتشاف أسرار الطبيعة والكون، ولولا هذه الغريزة لما وجدت الحضارة. ولكن مشكلة العقل أنه قاصر، ولا يوثق به في التمييز بين الحق والباطل، والعدالة والظلم، لأن هذه الأمور يراها الإنسان من خلال مصالحه. أما الضمير، فرغم أنه كوني أي موجود عند كل البشر، ولكنه يختلف باختلاف الثقافات والأديان. لذلك فالإرهابي الوهابي الذي تعرض لغسيل الدماغ من قبل مشايخ الوهابية يرتكب أبشع الجرائم بحق الإنسانية وهو مرتاح الضمير.

تطرقتُ إلى موضوع العقل قبل 9 سنوات (عام 2005)، في مقال بعنوان: (هل للعقل دور في اختيار الحلول الصائبة؟)(2)، وأنا أتأمل العراقيين، وغير العراقيين من مختلف الدول العربية والإسلامية وغيرها، من قيادات سياسية، ودينية، وزعماء أحزاب، المفترض بهم أنهم من أصحاب العقول المستنيرة، ولكنهم يساهمون مساهمة فعالة في تدمير بلدانهم، وعدم استقرارها، وكل منهم يتهم الآخر بالجهل، و الخيانة، أو الكفر، أو الإرهاب، مما يجعل الإنسان يحتار ويسأل: أين العقل من كل هذه الأعمال الوحشية؟ ولماذا لا يتفق زعماء البلد الواحد على كلمة سواء، ويوحدوا صفوفهم وكلمتهم وقراراتهم في خدمة شعبهم، خاصة وأن أغلب المتخاصمين يحملون شهادات تعليمية جامعية عالية، مما يؤكد أنهم أناس أسوياء ومتعلمين أو مثقفين، وغير مصابين بلوثة عقلية أو نقص في المعرفة.
المشكلة هنا أن كل واحد منا يرى أن عقله هو، وليس عقل غيره هو الصائب، ومن يختلف معه إما جاهل وإما متعمد وعميل للأجانب. وهذا ناتج عن كون العقل منحاز للمصالح، فمواقف الإنسان تحدده مصالحه، بغض النظر عن كون هذه المصالح تتفق مع "العقل" أو "الحق" أم لم تتفق.

في عصرنا الراهن أفاد علم الكومبيوتر الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع بمصطلحات كومبيوترية تساعدهم على وصف العقل وتشبيهه بالكومبيوتر. فالكومبيوتر ينقسم إلى قسمين رئيسيين: المواد الصلبة الملموسة (Hardware)، والمواد الرخوة أو غير الملموسة (Software)، أي البرامج والأفاكار. والكومبيوتر يخرج من المصنع وهو مجرد جهاز مادي معقد ولكنه فارغ من أي برنامج، لا يعمل إلا بعد أن تزوده بالبرامج التي يحتاجها صاحب هذا الجهاز، وأداءه يعتمد على نوعية هذه البرامج. وكذلك الإنسان، إذ يولد الطفل وفي رأسه جهاز كومبيوتر وهو الدماغ (hardware)، ولكنه فارغ عند الولادة، أي صفحة بيضاء من الناحية العقلية والفكرية، والدينية واللغوية والمعتقدات، ولكن هذا الجهاز العظيم، الدماغ، مستعد لتقبل ما ينصب فيه من برامج أي عقل، من لغة الأم والأعراف والتقاليد والعادات، والمعارف، وغيرها من الأفاكار، ابتداءً من البيت والروضة والمدرسة إلى الجامعة والحياة العملية، وما يتلقاه من المهد إلى اللحد لتكوين عقله. فالطفل له قدرة عجيبة على التقليد، فيتعلم بتقليد أقرب الناس إليه في كل شيء. لذا فالعقل هو الجزء غير المادي من الإنسان.

نعم هناك جينات وعوامل وراثية من الأبوين تقرر استعداد الوليد لقضايا وحرف معينة أفضل من غيرها، ولكن نوعية العقل والمعتقدات الدينية والمذهبية والفكرية والسياسية وغيرها تعتمد على البيئة الاجتماعية من الأسرة إلى الدولة التي تزق دماغ هذا الإنسان بالأفكار والتعاليم والمهارات. قد تكون هناك جينات تجعل الإنسان يميل إلى الدين خاصة في حالة تعرضه للكوارث، ولكن ليست هناك جينات لدين معين أو ثقافة معينة كما يعتقد البعض. فلو كان بن لادن قد ولد وتربى في عائلة هندوسية لتبنى الديانة الهندوسية، ولما صار مسلماً وهابياً إرهابياً.
كذلك يمكن القول، أن البشر متشابهين في تركيب أدمغتهم من الناحية التشريحية (Anatomy)، ولكنهم يختلفون في العقل، ودرجة الذكاء، والمعتقدات المختلفة، لأن هذه الأمور تتأثر كثيراً بالبيئة، والبيئات تختلف باختلاف الشعوب والتاريخ والجغرافية، وبالتالي بيئاتهم الاجتماعية. فكما يبدأ الإنسان طفلاً فارغاً من أية معارف وثقافة ومهارات، كذلك المجتمع البشري بدأ من العصور الحجرية. فكما يعيد الجنين في رحم الأم تاريخ التطور البيولوجي للنوع (species) من الخلية الواحدة المخصبة (Zygote) إلى الجسم الكامل، كذلك تطوره الاجتماعي يختصر خلال عمره القصير التطور الاجتماعي للمجتمع البشري من قبل العصر الحجري إلى عصر الانترنت ونانوتكنولوجي. ولكن مهما بلغت المجتمعات البشرية من تطور فائق وتقارب نحو التآخي الإنساني فهي مازالت تتصارع على المصالح كجزء من الطبيعة البشرية، لأن وظيفة العقل الأساسية هي الدفاع عن النفس وتحقيق أكبر قدر من المصالح، وإلحاق أكبر قدر ممكن من الأضرار بالعدو أو الخصم.

التاريخ البشري منذ العصور الحجرية وإلى الآن حالة مستمرة من الحروب والمظالم والقتل وسفك الدماء وهتك الحقوق والأعراض، قد تتخللها فترات الهدنة التي إذا ما حصلت فهي للتحضير للحروب القادمة. فعمر نوع الإنسان القائم (homo erectus) أكثر من 2.5 مليون سنة، وعمر الإنسان العاقل أو الذكي (Homo sapiens) يقدر بمائتي ألف سنة، بينما عمر الحضارة لا يزيد على سبعة آلاف سنة في أحسن الأحوال لذلك فعمر الحضارة قصيرة جداً مقارنة بعمر الوحشية والهمجية.

لذلك لا نستغرب من شهادة أستاذ في علم النفس (ستور Storr ) الذي وصف الإنسان بأنه: "... كائن عدواني نادراً ما يجادل حول عدوانيته. باستثناء بعض القوارض، لا توجد بين الفقريات الأخرى حيوانات تعودت على تدمير أعضاء من نوعها ... ينحصر التطرف في السلوك الوحشي للإنسان، وليس هناك ما يوازيه في الطبيعة، وليس لدينا العلاج للتعامل الوحشيي الذي يعامل بعضها البعض ... نحن أقسى وأكثر الأنواع قسوة من أي نوع مشى على الأرض وفي أي وقت، وعلى الرغم من أننا قد نشمئز رعباً عندما نقرأ في صحيفة أو كتاب التاريخ عن الفظائع التي ارتكبت من قبل الإنسان ضد الإنسان، ونحن نعلم في قلوبنا أن كل واحد منا يحمل في نفسه تلك النبضات الوحشية التي تؤدي إلى القتل والتعذيب والحرب ..)) (Richard Gross, Psychology, P. 452)

والآن، ورغم كل هذا التطور في العلوم والفنون والتكنولوجيا لدى الشعوب المتحضرة، إلا إن الجانب الأخلاقي والموقف من الحق والباطل فمازال متخلفاً وفي صراع شديد. وعندها يسأل الإنسان المتأمل: أين دور العقل في كل هذا؟ فبإلقاء نظرة فاحصة على ما يجري الآن من أعمال إرهابية همجية ضد الشعب العراقي والشعوب العربية والإسلامية الأخرى، والتي تتلقى الدعم بالفتوى من قبل رجال الدين، والمال والسلاح من الحكام والأثرياء، والإعلام من الإعلاميين والسياسيين العرب وغير العرب، خاصة من أولئك الذين نفترض فيهم العقل والمعرفة، يبقى السؤال ذاته ملحاً، أين العقل من كل هذا؟

فهل للعقل أي دور في التمييز بين الحق والباطل أو الصواب والخطأ، أو بين الخير والشر، أم تسير الأمور بشكل عاطفي وعشوائي، خارج عن سيطرة "عقل" الإنسان؟ في الحقيقة يبدو أن ما نسميه بالعقل ما هو إلا مجرد غشاء خفيف يغطي الطبقات السميكة من المراحل الحيوانية الوحشية التي مر بها الإنسان خلال تطوره البيولوجي والإجتماعي، أما دور العقل في التمييز بين الحق والباطل أو أخذ المواقف والقرارات العقلانية الصائبة فمحدود وربماً لا شيء يذكر، بل الذي يقرر الموقف هو المصالح والقوة. والعقل معرض للخطأ والوهم كما تخطأ حواسنا الخمس في إدراك العالم الخارجي، مثل العين تنخدع بالسراب فتحسبه ماءً.

فقبل خمسين عاماً نشر عالم الاجتماع الراحل علي الوردي، كتابه القيم (مهزلة العقل البشري) ناقش فيه دور العقل ووظيفته عبر التاريخ العربي- الإسلامي، وتوصل إلى نتيجة مفادها أن العقل ليس لمعرفة الحق والباطل، والتمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، بل هو أداة دفاعية يستعملها الإنسان للدفاع عن النفس وعن المصالح، إذ يقول: " إن العقل الإنساني لا يعمل وفق قوانين المنطق والحكمة والمثاليات، بل هو عضو للبقاء مثل ناب الأفعى وساق النعامة ودرع السلحفاة." ويرى «أن طبيعة البشر واحدة والاختلاف يرجع في الغالب إلى اختلاف في تكوين المجتمع، والذي جعل أهل العراق أهل فطنة ونظر وأهل شقاق ونفاق هو واحد لا يتجزأ".

فالإنسان يتمسك بمبدأ معين ويسميه (حقيقة)، طالما تطابق مع مصالحه، أما إذا تعارض مع مصالحه فإنه يقف ضده ويبحث عن الأدلة العقلية والنقلية ليثبت صحة موقفه ويقلب الحق إلى باطل والباطل إلى حق وفق ما يلائم مصالحه، وأوضح مثال هو دور المحامي عندما يدافع عن موكله في المحاكم، فهو لا يبالي فيما إذا كان هذا الموّكل معتدياً أو معتدى عليه، على حق أم على باطل. كذلك الحال في موقف الإنسان من الدين، فهو مع الدين طالما اتفق مع مصالحه، أما إذا تعارض الدين مع مصالحه فهو إما أن يتمرد عليه أو يلجأ إلى وعاظ السلاطين، لإيجاد تفسيرات تلوي عنق الدين ليتوافق مع مصالحه.

قال ونستون تشرتشل عن الأمريكان أنهم "لا يستخدمون الطرق الصحيحة لحل المشاكل إلا بعد أن يستنفدوا جميع الطرق الخاطئة". في الحقيقة هذه المقولة تنطبق على معظم البشر في كل مكان وزمان. فالبشر يلجأون أولاً إلى الطرق الخاطئة في حل مشاكلهم وحسم خلافاتهم مع الآخرين، وكل طرف يتشدد في شروطه على أمل أن يحقق كل ما يريده، ويحرم الخصم من كل شيء، ويعتبرون ذلك شطارة (نزعة التغالب). ولما تفشل هذه الطرق يتبنون حلولاً أقل خطأ وهكذا إلى أن يستسلموا للحلول الصحيحة التي عادة ما يسمونها بالحل الوسط، ولكن بعد خسائر بشرية ومادية كبيرة، فيقبلون بالممكن في نهاية المطاف، وعندها يقولون أنهم توصلوا إلى ذلك بالعقل والحكمة!
و رغم كل هذه المعوقات والقصور، فالعقل البشري مبرمج أن يتقدم ويشق طريقه نحو الرقي والتكامل الحضاري والإنسانية، ولكن من خلال الكبوات والتجارب والآلام المريرة، ومازال الطريق طويلاً.

روابط ذات صلة
1- د. عبدالخالق حسين: غفلة الغرب عن مخاطر الإسلام السياسي
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/?news=557

2- د. عبدالخالق حسين: هل للعقل دور في اختيار الحلول الصائبة؟
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=39696


 


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter