بقلم د. يحيى الجمل
لا تخفى علىّ غرابة السؤال فهناك بين المتنبى وجمال عبدالناصر ألف عام على الأقل، فالمتنبى ولد فى أوائل القرن الثالث الهجرى ومات قرابة منتصف ذلك القرن.
وعلى وجه التقريب فإن القرن الثالث الهجرى يقابل القرن العاشر الميلادى وإذا كان عبد الناصر قد ولد فى العقد الثانى من القرن العشرين وقاد حركته السياسية مبشرا بالعروبة وبوطن عربى واحد فى منتصف القرن العشرين (١٩٥٢ – ١٩٦٧) – إذا كان ذلك كذلك كما تقول لغة الأحكام القضائية – فإن التساؤل يبدو غريباً!! أليس كذلك. ولكن غرابة التساؤل لابد وأن تكون لافتة للنظر وجاذبة للقارئ. ذلك ما أعتقده على الأقل وهو أمر مستحب بالنسبة للكاتب.
المهم لماذا أطرح هذا التساؤل وما وجه الشبه بين الشاعر العملاق والقائد الفذّ؟ ما وجه الشبه بين المتنبى وعبدالناصر.
وجه الشبه بين الرجلين هو «الإيمان بالعروبة» إلى أبعد مدى.
والمتنبى كما قال مؤرخو الأدب العربى هو الشاعر الذى ملأ الدنيا وشغل الناس منذ القرن الرابع الهجرى وحتى اليوم.
وفى هذه الفترة من تاريخ العرب كان الاضمحلال والسوس قد بدأ ينخر فى الدولة العباسية وبدأت تظهر دولة العجم – إيران حاليا – وتقوى شوكتها. وكان الأعاجم أصحاب حيلة ودهاء فأوقعوا بين المسلمين وبعضهم البعض، وكما يقول الدكتور عبدالمجيد دياب فى كتابه القيم «خلاصة المتنبي» الصادر عن دار سعاد الصباح عام ١٩٩٢ «لم يكد يبدأ هذا القرن حتى ظهرت شوكة الأعاجم وكانوا أصحاب حيلة ودهاء وصارت الدولة العربية المترامية الأطراف فى ثورة دائمة لا تفتر ولا تنقطع الحروب فى ناحية إلا اتقدت نيرانها فى أخرى وانقسمت دويلات ولم يبق للخليفة غير الاسم الكريم يحمله مرغما ويضعه مرغما لا إرادة له».
والذى يتأمل فى العبارة الأخيرة يدرك مدى الهوان والضعف الذى لحق بخلفاء العباسيين فى تلك الفترة فهو يتبوأ منصبه على غير إرادته وهو أيضاً يُنحى عن منصبه على غير إرادته.
هل بعد هذا الهوان هوان.
والشاهد هنا أن المتنبى عاصر ذلك كله ولعل هذا هو وجه آخر بين عبدالناصر وبين المتنبى، ذلك أن عبدالناصر وصل إلى الحكم وأحوال الأمة العربية فى غاية من التردى والهوان أيضاً. وكان المتنبى عروبيا متعصبا للعرب والعروبة رافضا للصورة التى آلت إليها الدولة العربية على أيدى العباسيين مما أدى إلى سيادة العجم.
يقول المتنبى:
«وإنما الناسُ بالملوك وما
تفلح عُرب ملوكها عجم».
وأدى انحلال الدولة العباسية وتشرذمها إلى أن استقل بنو حمدان الذين ينتمى إليهم سيف الدولة الحمدانى بشمال الشام. ومصر وقعت تحت حكم كافور الأخشيدى إلى أن دخلها الفاطميون القادمون من غرب أفريقيا. وهناك مواقع كثيرة فى القاهرة يطلق عليها القاهرة الفاطمية ومنها بل وأهمها منطقة الأزهر الشريف وهو الجامعة التى أنشأها الفاطميون.
وهكذا توزعت الخلافة العباسية بين بنى حمدان فى الشام والحاكم بأمر الله الفاطمى فى شمال أفريقيا والأندلس فى يد عبدالرحمن الناصر ولم يبق للخلافة العباسية من قيمة يعتد بها وتوشك الدولة العباسية آنذاك أن تقتصر على «العراق».
فى هذه الفترة – القرن الرابع الهجرى – نشأ أبو الطيب المتنبى ولاشك أن هذه الأجواء الغريبة قد أثرت عليه تأثيرا بالغا وجعلته يميل إلى التأمل بل والتفلسف أحياناً، وجعلته يدرك أن علّة العرب هى التشرذم والتفتت وأن العلاج هو العودة إلى العروبة والتوحد.
هل يجوز لى بعد هذا العرض الذى عرضته أن أضع لهذا المقال عنوان: هل كان المتنبى ناصريا؟
أعتقد أنه يجوز لى ذلك بمعنى من المعانى.
نقلآ عن المصري اليوم