بقلم يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها-(519)
هذا آخر أسبوع في السنة,عندما ينقضي نغادر عاما ونخطو إلي عام جديد, وهي مناسبة مهمة للتقييم والمكاشفة وفتح الحسابات لتصفيتها…وفي هذا الخصوص يلح علي أمر في ملفالأمور المسكوت عنها وقفت أمامه كثيرا وأزحته جانبا مرارا لاستشعاري دقته وحساسيته,لكني لم أستطع غض النظر عنه خاصة وهو بات ضيفا منتظما يحل علينا من خلال الإعلام وشاشة التليفزيون…وبينما أدرك تماما أن ليس كل ما نتلقاه من الشاشة جديرا بالتصديق بل يستحق التدقيق,إلا أنني أجدني في هذا الملف أمام مصدر جاد يقدم أدلة دامغة علي ما يقول ويلقي حجرا في ماء راكد يستدعي الفحص والمراجعة.
إنها قضية مؤسسة الأزهر ودورها في التنوير والتعليم والإرشاد الديني وما يتبعها من كليات جامعية ومعاهد تتولي تربية وتثقيف أجيال من أولادنا وبناتنا علاوة علي ما تبثه من فكر من خلال مكتبتها وكتبها ومناهجها وما تطلقه من فتاوي تمس حياة أتباعها من المسلمين وتؤثر بالتبعية في حياة مواطنيهم من المسيحيين وفي مستقبل هذا الوطن بشكل عام…وعندما أشرت إلي أن هذه القضية باتت مطروحة علينا إعلاميا كنت أقصد ما طرحه الصحفي الإعلامي الكبير الأستاذ إبراهيم عيسي في برنامجه30/25 علي قناة أون-تي في وما أفرزه محتواه من قلق بالغ في نفسي إزاء المسكوت عنه في مؤسسة الأزهر.
لم يقدم إبراهيم عيسي كلاما مرسلا عاريا عن الصحة أو مفتقدا الدليل الدامغ,ولم ينبر في شن هجوم مغرض يفضح نوايا خفية للتشهير بأحد أو لتصفية حسابات مع أحد,إنما كان في كل ماقدم يتسلح بصفحات الكتب والمناهج التعليمية وبتسجيلات صوتية وبتصريحات منسوبة لعلماء مؤسسة الأزهر…ولم يخف فزعه من أن تكون هذه المؤسسة العريقة لها واجهة تنويرية براقة ممثلة في فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر تستر خلفها جسدا متخلفا عليلا متعصبا أصوليا يبث فكرا مدمرا بهذا الوطن.
وفي هذا السياق ينفجر في وجوهنا التساؤل المدوي:وهل يجهل شيخ الأزهر كل ذلك؟…ألا يعرف كل صغيرة وكبيرة عن المؤسسة التي يجلس علي قمتها دينيا وتعليميا؟…هل يغيب عنه التكوين الفكري والفلسفي لعلماء هذه المؤسسة وماينشرونه بين أتباعها وعبر طلبتها؟…هل يستقيم أن يجلس علي قمة مؤسسة الأزهر شيخ وقور متعلم متنور ثم يترك تحت قيادته مايتنافي مع فكره وتوجهاته؟…هل نتوقع مواجهة إصلاحية بين شيخ الأزهر وبعض علمائه وأساتذته وشيوخه المتطرفين أم أن شيخ الأزهر ينحي جانبا هذه المواجهة وغير مزمع علي الإصلاح؟
إنني أقف مذهولا أمام التناقض الصارخ بين ما يصدر عن مؤسسة الأزهر من مواقف وطنية طيبة ووثائق تنويرية عظيمة,وبين ما تصدره المؤسسة ذاتها من فكر أصولي متطرف يرقد بين جنبات كتبها ومناهجها التي تدرس لطلبتها وفي عقول وقلوب علمائها وأساتذتها الذين يتصدون لنشر ذلك الفكر وترويجه وتبريره!!
أذكر في هذا الصدد كيف لعب الأزهر دورا تنويريا ملفتا في أعقاب ثورة 25يناير2011 وما صدر عنه في مواجهة دعاوي تأسيس الدولة الإسلامية حين أطلق بيانه التاريخي في19يونية من نفس العام يحمل عنوانبيان الأزهر ونخبة من المثقفين حول مستقبل مصر وهو البيان الذي اكتسب وقتها أهمية كبيرة دعت الكثيرين لأن يطلقوا عليه وثيقة الأزهر حيث سطر مبادئ جديدة غير مسبوقة حول رؤية الأزهر للدولة الحديثة التي يتطلع المصريون لتأسيسها بعد الثورة….مبادئ شملت:استلهام الفكر الإسلامي الوسطي وروح أعلام النهضة والتقدم والإصلاح من علماء الأزهر وأئمته المجتهدين وإنجازات كبار المثقفين المصريين الذين شاركوا في التطور المعرفي والإنساني وأسهموا في تشكيل العقل المصري الحديث في نهضته المتجددة…كما استطرد في:التأكيد علي مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية واعتبار المواطنة مناط المسئولية في المجتمع مع احترام آداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار واجتناب التكفير والتخوين…
ثم عاد الأزهر ليصدر في يناير2012وثيقة الأزهر للحريات العامة وحقوق الإنسان التي اعتبرت وقتها بمثابة الرد الحاسم علي محاولات سادت آنذاك وشكلت هجمة شرسة علي الشخصية المصرية والثقافة الوسطية,فجاءت الوثيقة تطمئن المصريين أن محاولات العبث بمقدرات بلدهم لاتنتمي إلي الإسلام ولا إلي منظومة الحريات وحقوق الإنسان…وسطرت تلك الوثيقة خطوطا تنويرية عظيمة حول:حرية العقيدة,حرية الرأي والتعبير,حرية البحث العلمي,حرية الإبداع الأدبي والفني ,حتي وصفتها أنا في مقالي وقتها بأنهاتضئ مشعل التنوير في وجه تيار الترويع إزاء ذلك كله أعود وأقف يعتريني القلق والتوجس أمام ما يقدمه-بالدليل القاطع الدامغ-إبرهيم عيسي حول تعاليم وكتب وفكر مؤسسة الأزهر الكامنة في جنباتها والتي يتم ضخها في عقول أتباعها وطلبتها…وأتساءل:هل الوثائق التنويرية التي صدرت عن المؤسسة كانت وثائق زخرفية؟…هل البيانات والتصريحات العامة تطلق لذر الرماد في العيون؟…هل المواقف الصادرة عن القمة المرموقة لهذه المؤسسة تخفي وراءها جمودا وأصولية وتطرفا لايريد أحد التصدي لها؟
إننا اليوم أمام ملف مسكوت عنه وينبغي مواجهته..فإما أن تتم مساءلة إبراهيم عيسي فيما ينسبه لمؤسسة الأزهر…أو تتم مساءلة الدكتور أحمد الطيب عن التناقض بين التيار التنويري والتياري الترويعي في الأزهر.
نقلا عن وطنى