د. عبدالخالق حسين
ينقل عن موشي دايان، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق قوله: "أن العرب لا يقرأون، وإن قرأوا لا يفهمون، وإن فهموا فسرعان ما ينسون". ولكي لا نتهم بالتعميم نقول شريحة من القراء العرب تنطبق عليهم هذه الصفة. وقد تعرض عالم الاجتماع العراقي، الراحل علي الوردي، إلى نفس المحنة بعد صدور كتابه (وعاظ السلاطين) في أوائل الخمسينات من القرن المنصرم، حيث تعرض ليس إلى الهجوم والتشهير فحسب،
بل وحتى إلى محاولة إغتيال. لذلك فعندما أصدر كتابه الآخر (مهزلة العقل البشري) كتب في (الإهداء) تحذيراً قال فيه: "أهدي هذا الكتاب إلى الذين يفهمون ما يقرأون. أما الذين يقرأون في الكتاب ما هو مسطور في أدمغتهم فالعياذ بالله منهم. إني أخشى أن يفعلوا بهذا الكتاب ما فعلوا بأخيه (وعاظ السلاطين) من قبل، إذ اقتطفوا منه فقرات معينة وفسروها حسب أهوائهم ثم ساروا بها في الأسواق صارخين... لقد آن لهم أن يعلموا أن زمان الصراخ قد ولّى، وحلَّ محله زمان التروّي والبحث الدقيق."
ورحم الله الوردي الذي قال هذا الكلام قبل خمسين سنة، فماذا سيقول لو جاء اليوم ليرى الوضع أسوأ بكثير عما كان عليه في الماضي، حيث أضافوا قراءة مبتورة، وربما متعمدين، وعلى غرار قراءة: (لا تقربوا الصلاة...) ثم يتوقفون عن القراءة ليبرروا تركهم للصلاة!!
قبل عامين نشرت مقالاً بعنوان: (قاسم والمالكي بين زمنين، التشابه والاختلاف)، وكانت مساهمة ضمن عدد من المقالات ظهرت بعناوين مشابهة. وكما هو واضح من العنوان، ذكرت فيه مشتركات ومفارقات بين المرحلتين، أي (مرحلة ثورة 14 تموز 1958، ومرحلة العراق ما بعد التحرير من الفاشية البعثية عام 2003)، وهو: تكالب أعداء العراق في الداخل والخارج، ومن قبل نفس الجهات الخارجية والداخلية، والجماعات والأسر المتنفذة، وحتى المناطق والمكونات، هي هي. وأما نقاط الاختلاف فإن أمريكا وبريطانيا هذه المرة هما إلى جانب العراق،
وشاه إيران قد ولىّ إلى غير رجعة، كما وهناك نقاط اختلاف بين شخصية الزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم، كشخص وطني وعسكري، وعلماني، وبين السيد نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق في وقت كتابة المقال المشار إليه، وأنهما يشتركان في الوطنية وانحيازهما للفقراء، ويواجهان نفس الأعداء. ويبدو أن الذين لم يعجبهم المقال لم يتذكروا نقاط الاختلاف التي ذكرتها. أدرج رابط المقال في الهامش(1).
لم أرغب بالعودة إلى هذا الموضوع لولا مقال الدكتور لبيب سلطان، الموسوم (هل من وجه حق مقارنة الزعيم عبد الكريم قاسم بالسيد نوري المالكي)، المنشور على عدد من مواقع الإنترنت يوم 23/12/2014، حيث بدأه بالتالي:
((لا بد من الإشارة بدء أني لا أعتقد مطلقا ان هناك نقاط تقارب بين الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم وبين رئيس الوزراء السابق السيد نوري المالكي عدا النقطة التي يشير لها الأستاذ الوطني الدكتور عبد الخالق حسين الذي يرى ان محاربة البعث لكلاهما (وهو محق بذلك) هو ما يجعلهما متقاربان -ولكني ارى ان الدكتور عبد الخالق الذي أعتز بمعرفته وبافكاره المدنية الوطنية - كأنما يغلب هذه النقطة على جوهر الصراع الذي يجب ان يخوضه المثقف العراقي اليوم الذي أرى ان يركز على "التقدمية" ضد الرجعية التي تشكلها اليوم في العراق قوى من فلول البعث و"ودعاة الأسلام" "والتقسيم العرقي والطائفي"التي تنهش الدولة العراقية من احزاب التشيع او التسنن او التكرد التي تسيطر على مقومات المجتمع العراقي اليوم.)) انتهى.
أشكر الدكتور لبيب سلطان على مشاعره النبيلة نحوي، وأبادله بالمثل. ولكن كنت أتمنى عليه لو قرأ أيضاً نقاط الاختلاف التي ذكرتها.
كما ويعتقد البعض أني أتعمد في الدفاع عن السيد نوري المالكي، وأحاول تشبيهه بالزعيم قاسم.
في الحقيقة، لو يراجع أي قارئ منصف يفهم ويتذكر ما يقرأ، يجد أني لم أشبه السيد نوري المالكي بالزعيم قاسم إلا بالظروف الموضوعية التي عاشها كل منهما، وهوية الأعداء، لأن لكل منهما شخصيته، ونشأته، ومزاجيته وظروفه التاريخية...إلى آخره. وإنما أكدت على التشابه في الهجمة الشرسة على العراق، وعلى الشخصيتين، كما ورد أعلاه. أما إذا ظهرت نتائج بعض مقالاتي لصالح السيد المالكي فهذا تحصيل حاصل الاستقراء. فتفنيد الافتراءات لا يعتبر دفاعاً عن الشخص المفترى عليه بقدر ما هو دفاع عن عقولنا وحماية للرأي العام من التضليل، وهذا واجب كل كاتب. أعيد إدراج رابط بقائمة الافتراءات على المالكي وحكومته، وليحكم القراء عقولهم فيها(2).
وبمناسبة الأخبار الكاذبة والافتراءات والفبركات على السياسيين، فهناك معايير خاصة ومنطقية يمكن للمتلقي استخدامها بإعمال عقله، لمعرفة ما إذا كان هذا الخبر حقيقة أم ملفق ومفبرك. فغالباً يكون الخبر المفبرك خطير جداً، وعلى سبيل المثال نشر قبل عدة سنوات بمناسبة زيارة المالكي لواشنطن، تقرير في موقع بعثي بعنوان: (صهر المالكي يصفع السفير العراقي في أمريكا في مكتب نائب الرئيس الأمريكي)، تم تعميمه حتى من قبل ناس نتوسم فيهم الوطنية والعداء للفاشية البعثية. فلو كان الخبر صحيحاً لنشرته وكالات الأنباء العالمية المعروفة بالمصداقية، مثل الـ سي أن أن، والبي بي سي، ورويترز وغيرها، لأن هكذا خبر مهم جداً، وطالما لم تهتم به هذه الوكالات فإن الخبر مزيف وكاذب.
وهناك طريقة أخرى لترويج الافتراءات، وهي كتابة تقرير مزيف ضد سياسي معروف وغالباً شيعي، يدعي المروِّج له أنه نشر في صحيفة غربية مشهورة مثل الغارديان أو التلغراف أو واشنطن بوست وغيرها. ولما تذهب إلى الصحيفة، وهو ليس صعباً في عصر الانترنت وغوغل، فلم تجد أي أثر لهذا الخبر في تلك الصحيفة، وبذلك تعرف أنه كاذب ويجب إهماله وعدم ترويجه، بينما يقوم البعض بتعميمه وهو يعلم أنه كذب، بمجرد أن يضيف عبارة (كما وصلني)، وهكذا يريد أن يقول لنا أنه بريء وقصده شريف جداً من نشر هذا الافتراء!.
وفي هذه الأيام تتداول رسالة مفادها أن "ألقت السلطات البريطانية القبض على الملحق التجاري العراقي في لندن القيادي البارز في حزب الدعوة الإسلامية تنظيم المالكي المدعو حسن مسعود، يأخذ مساعدات حكومية من دائرة العاجزين عن العمل لأمور صحية منذ 20 عام ويأخذ مساعدات بدل إيجار السكن وغيرها من المنافع الإجتماعية التي تُقدم للعاطلين عن العمل."
فجاء الرد الواضح من أحد المتنورين قائلاً : "أنه استلم هذا الموضوع من ثلاث جهات وبحث عنه في Google بالإنكليزية فلم يعثر على اي رابط، ولا يوجد الشخص المعني في السلك الدبلوماسي العراقي في بريطانيا منذ سنة 2011. اما اثناء البحث العربي فوجد الموضوع في أربعة مواقع والكل تنقله عن موقع (العودة) وهو موقع باسم حزب البعث والموضوع جاء مسترسلا بدون مصدر ." وينصح المرسل بحق: " ارجوا عدم إرسال اي موضوع مجهول المصدر يراد منه الإساءة الى كل العراقيين".
وهكذا بدأت الناس تدرك ألاعيب البعثيين في الافتراءات، ولكن مع الأسف مازالت تعبر على آخرين الذين لديهم الاستعداد النفسي لتصديق هذه الأكاذيب.
فالعراق غارق بالمشاكل و من الخطأ شخصنتها، وليس بإمكان أحد حلها بالتمنيات والأفكار الرغبوية، ومهما أوتي هذا الشخص، الذي وضعته الأقدار في موقع المسؤولية العليا، من قدرات وخاصة في النظام الديمقراطي الإئتلافي المكون من كيانات سياسية متناحرة، ورئيس الوزراء مكبلة يداه من الخلف ولا يجوز له اختيار وزرائه الذين يدينون ولائهم لرؤساء كتلهم، وليس للحكومة، بل وكثير منهم شاركوا في الحكومة من أجل إفشالها، ويقاطعون جلسات مجلس الوزراء تحدياً لرئيس الحكومة وبأوامر من رؤساء كتلهم. هذا الوضع لم يكن معروفاً قبل 2003، ولا في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم ولا في أي نظام ديمقراطي أو دكتاتوري في العالم أو في التاريخ إلا في العراق بلاد العجائب والغرائب ومصائب.
والذين يتغنون الآن بنزاهة و وطنية الزعيم عبدالكريم قاسم ليس حباً به، بل ليستخدموه ضد المالكي بحجة أن المالكي فشل في وقف الإرهاب ومحاربة الفساد، ولم يكن في عهد الزعيم إرهاب ولا فساد. ولكن الزعيم الذي يضربون به المثل في الوطنية والنزاهة الآن، هل كان العراقيون راضين عليه عدا الفقراء منهم والذين دافعوا عنه ببسالة وبصدورهم العارية أما وحش الفاشية في ذلك اليوم الشباطي الأسود؟ ألم يقتلوه شر قتلة ولم يتركوا له حتى قبراً يضم جسده الممزق برصاص الغدر والخيانة؟ وهل سيتخلص العراق من الإرهاب والفساد بمجرد إزاحة المالكي عن رئاسة الحكومة؟ لا أعتقد ذلك، لأن الإرهاب والفساد من مكونات حملة دولية وإقليمية للتخلص من الديمقراطية في العراق وإعادته إلى ما كان عليه قبل 2003.
نعم، أنا مع التقدمية والعلمانية والديمقراطية والليبرالية، وجميع القيم الحضارية الإنسانية النبيلة، ولكن أولئك الذي خاصموا المالكي وسعوا للتخلص منه، كيف يريدون الجمع بين الديمقراطية ورفضهم لنتائجها؟ شئنا أم أبينا، فالشعب منقسم على نفسه وفق التخندق الطائفي والعرقي، وشعار كل كتلة سياسية (أنا وحدي وليذهب الآخرون إلى الجحيم!!)، وشعار البعث الداعشي بعد أن فقد الحكم (عليَّ وعلى أعدائي يا رب... وليكن من بعدي الطوفان). أما وأن يقول التقدميون أن هذا التخندق الطائفي خطأ، فأنا أيضاً أقول خطأ، وأتمنى لو يكون العراق مثل الدول الإسكندنافية، ولكن المسألة نسبية، فالانقسام الطائفي والعرقي مفروض بحكم الواقع الموضوعي المرير، وغير قابل تغييره في الوقت الحاضر وحتى في المستقبل المنظور؟
فكل مكون يختار قيادته بانتخابات حرة ونزيهة، و60% من الناخبين الشيعة اختاروا نوري المالكي. ورفضه ممثلو الكرد والسنة، والأقلية من قادة الشيعة الذين طلعوا علينا بفذلكة "المقبولية". ماذا لو أصر قادة الشيعة أنهم لا يقبلون العمل مع من اختارهم الشعب الكردستاني أو السنة العرب؟ فهل يقبل السنة والكرد بلعبة المقبولية في هكذا تعامل مع قادتهم؟ وفي هذه الحالة، ما قيمة الديمقراطية وصناديق الاقتراع إذا كانت ترفض ويفضل عليها "المقبولية" لتنال قبول السيد مسعود بارزاني وإلا نطلق عليكم كلاب داعش تنهش بكم؟ هل هذه هي الديمقراطية التي يريدونها للعراق؟
فالسنة العرب وبعد أن فقدوا احتكارهم للسلطة تماهوا مع البعث الداعشي وجعلوا مناطقهم حواضن للإرهاب، ومؤتمر أربيل يشهد بذلك. والقسم الكردي بجناحه البارزاني يرى أن مستقبل الكرد في تدمير الدولة العراقية، وأمام هذا وذاك يرى الشيعة أنفسهم مهددين بالإبادة والفناء لا لشيء إلا لأنهم شيعة، وفي هذه الحالة فلا بد وأن أغلبية الشيعة يرون حمايتهم ونجاتهم في التخندق والوقوف مع الأحزاب الدينية الشيعية. فالشيعة وحدهم يضحون بمصالحهم وشبابهم في سبيل الوحدة الوطنية، بينما الآخرون يطالبون بالتقسيم مستقوين بالسعودية وقطر وتركيا وضباع داعش. وفي هذه الحالة، فمحاربة الحكومة المنتخبة بحجة أن رئيسها من حزب الدعوة، سيؤدي إلى فقدان الديمقراطية رغم مشاكلها، وبالتالي يصب في خدمة الإرهاب البعثي الداعشي ومن وراءهم من أعداء العراق والديمقراطية.