لفت نظرى خبر صغير يتعلق بالأحوال الاقتصادية فى الهند، ولكنه أثار لدىَّ بعض الخواطر حول الاقتصاد المصرى. الخبر يقول إن مسؤولاً عن السياسة الاقتصادية فى الهند صرح بأنه إذا أرادت الهند أن توجد وظائف للأعداد المتزايدة من المتبطلين، فعليها أن ترفع معدل نمو الناتج القومى إلى ٨٪ سنوياً، بينما لم يزد معدل النمو فى الربع الأخير من العام على ٥.٣٪.
هذه الطريقة فى التعبير عن طريقة علاج مشكلة البطالة ليست جديدة علىَّ، فهى تتكرر فى مصر، وفى سائر بلاد العالم الثالث، وعلى ألسنة المسؤولين فى المؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولى وصندوق النقد «من أجل أن توظف كذا مليون من المتبطلين، عليك أن ترفع معدل نمو الناتج القومى إلى نسبة كذا فى المائة»، وكثيراً ما يضاف إلى ذلك، أن تحقيق هذه الزيادة فى معدل النمو يتطلب زيادة قدرها كذا فى الاستثمارات، وقد يضاف أيضاً أنه من حيث إن الاستثمارات المحلية لا تزيد على كذا، فلا بديل عن اللجوء إلى الاستثمارات أو القروض الأجنبية.
الاقتصاديون يأخذون هذا الكلام فى العادة، وكأنه كلام بديهى، تكاد تعادل صحته صحة المعادلات الرياضية، مع أن الحقيقة أن وراء هذه الطريقة فى تناول مشكلة البطالة، يكمن موقف أيديولوجى متميز، فلا عجب إن ظلت مشكلة البطالة مستعصية على الحل فى معظم بلاد العالم الثالث، رغم وفرة الاقتصاديين، وحتى فى ظل تدفق الاستثمارات الأجنبية ومعونات المؤسسات الدولية.
لقد قرأت منذ شهور قليلة لاقتصادى هندى كبير أنه بالرغم من نجاح الهند المبهر، خلال العشرين سنة الماضية، فى رفع معدل نمو الناتج القومى «مما تتكرر الإشادة به والثناء عليه فى بلادنا وخارجها» زاد عدد المتبطلين فى الهند خلال هذه الفترة بدلاً من أن ينخفض، ومع هذا لم ينقطع الكلام عن ضرورة الارتفاع بمعدل نمو الناتج من أجل القضاء على البطالة.
وفى مصر هناك من الدلائل ما يشير إلى أن معدل البطالة لم يتوقف عن الزيادة منذ منتصف الثمانينيات «أى طوال الثلاثين عاماً الماضية»، وهو ما لا تفصح عنه البيانات الرسمية المنشورة عن سوق العمل فى مصر. لا يمكن القول بأن استمرار البطالة فى مصر وزيادتها عاماً بعد عام، لا علاقة له بالفشل فى رفع معدل نمو الناتج القومى «الذى تراوح بين ٤٪ و٥٪ فيما بين ١٩٨٦ و٢٠٠٥» ولكن تصوير هذا الفشل على أنه هو السبب الأساسى فى زيادة البطالة هو تصوير خاطئ ومضلل، فى مصر كما فى غيرها من البلاد.
لقد ارتفع معدل نمو الناتج فجأة «بعد مجىء حكومة أحمد نظيف فى ٢٠٠٤» فتجاوز ٧٪ لمدة ثلاث سنوات، زاد خلالها بشدة تدفق الاستثمارات الأجنبية «حتى وقعت الأزمة العالمية فى ٢٠٠٨»، ومع ذلك لم تتحسن حالة البطالة فى مصر بل زادت سوءاً، ومازلنا نكرر بالرغم من ذلك أن الحل هو رفع معدل نمو الناتج القومى.
***
هذا الموقف من العلاقة بين مشكلة البطالة والتنمية موقف قديم، قدم أفكار الاقتصاديين التقليديين التى ظهرت منذ أكثر من قرنين من الزمان، فهؤلاء الاقتصاديون، كما هو معروف، كانوا يفترضون حداً أدنى من تدخل الدولة فى الاقتصاد، ومن ثم فالبطالة لا تُحل إلا بقرارات من أرباب العمل، هؤلاء يستثمرون، فيجد المتبطلون فرصاً للعمل، وليس هناك علاج آخر، ومن ثم فإن مصير العمال يتوقف أولاً وأخيراً على حافز أرباب العمل على الاستثمار، كان هذا الكلام مقبولاً فى ذلك الوقت أكثر منه الآن، عندما كانت وسائل الإنتاج لاتزال كثيفة الاستخدام للعمل، ولكن ما بالك وقد أصبحت مع التقدم التكنولوجى، شديدة الكثافة فى نسبة رأس المال إلى العمل، خاصة إذا أدى الاستثمار الجديد الذى لا يوظف إلا الحد الأدنى من العمال، إلى إغلاق مشروعات قائمة كانت توظف عدداً كبيراً منهم.
إن هذا هو بالضبط ما يحدث الآن فى معظم حالات قدوم الاستثمار الأجنبى: تزيد معدلات نمو الناتج القومى ولكن ترتفع أيضاً معدلات البطالة، هذه الحقيقة لا يجب بالطبع أن تؤدى بنا إلى رفض أى صورة من صور الاستثمار الأجنبى، وإنما تعنى فقط ضرورة اليقظة التامة من جانب الدولة، فتقوم بتشجيع بعض هذه الصور دون غيرها، وعدم الاعتراف بذلك هو بالضبط ما أقصده من القول بأن اعتبار زيادة الناتج القومى الحل الوحيد الناجع لمشكلة البطالة، يعبر عن موقف أيديولوجى متميز.
***
يعود ذهنى أربعين عاماً إلى الوراء، أى إلى مطلع السبعينيات من القرن الماضى، حين انتشر فجأة تيار فكرى جديد فى كتابات التنمية، يشكك بقوة فى بعض الأفكار الشائعة عن التنمية والبطالة وتوزيع الدخل، كانت هذه هى الفترة التى ارتفع فيها شعار «إشباع الحاجات الأساسية»، كبديل لزيادة متوسط الدخل، بل تبنته منظمة دولية هى منظمة العمل الدولية، كما زادت أيضاً الكتابات التى تشكك فى اعتبار رفع معدل النمو هدفاً أساسياً من أهداف السياسة الاقتصادية فى أى بلد، وتدعو إلى اهتمام أكبر بعدالة التوزيع وبنوعية الحياة، بما فى ذلك الاهتمام بما يحدثه النمو الاقتصادى من آثار ضارة بالبيئة.
اشتهر فى ذلك الوقت اقتصادى بريطانى رائع اسمه دادلى سيرز «Dudley Seers»، وعلى الأخص بدعوته إلى رفض العلاقة التقليدية بين نمو الناتج وعلاج البطالة، بل قلبها رأساً على عقب، إذ قال إن التوجه الأساس للسياسة الاقتصادية فى البلاد التى تتفاقم فيها البطالة، يجب أن يكون نحو علاج مشكلة البطالة على نحو مباشر ووجهاً لوجه، وتقييم المشروعات على أساس حجم ما تولده من عمالة بدلاً مما تولده من دخل.
نشر دادلى سيرز عدة كتب عن مشكلة البطالة فى دولة بعد أخرى من بلاد العالم الثالث، وكرر نصيحته بأن يصبح النجاح فى حل هذه المشكلة، وليس مجرد النجاح فى رفع معدل التنمية هو معيار الحكم بنجاح أو فشل السياسة الاقتصادية، ولكن الرجل مات فجأة، وقبل أن يموت كان من الواضح أنه يتكلم عكس التيار، فسرعان ما سيطر التحيز القديم لرفع معدلات النمو، وتراخت الدعوة إلى الاهتمام بمشكلة البطالة، وها هى مصر والهند، وغيرهما من دول العالم الثالث، مجبرة على الاستماع إلى هذه الوصفة الخائبة:
«ارفعوا معدل التنمية، وشجعوا الاستثمار، من أى نوع، وليذهب المتبطلون إلى الجحيم».
نقلا عن المصري االيوم