يحتاج الفرد لانتظام حياته، كما تحتاج المجتمعات لاستقرارها، وانتظام العلاقات المتبادلة بين أفرادها، إلى منظومة فكرية وأخلاقية. تأتي أهمية سلبيات وإيجابيات هذه المنظومات في الدرجة الثانية. فالإنسان بطبيعته باحث عن الاستقرار، بأكثر مما هو باحث عن المزايا المختلفة. لذا نجد المثل الشعبي المصري القائل: "اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش"، فالإنسان يخاف من الجديد، وينزعج من النقد الذي يوجه لما هو كائن وحال. لأنه بداية يهدد استقراره، وثانياً يعده (وقد لا يعده)، بجديد لا يعرف عنه شيئاً، أو بجديد سبق أن قام دهاقنة القديم بوصمه بمختلف البلايا. . هكذا نجد ما نشهد من عسر في عملية التنوير والتجديد، وما تواجه به من مقاومة شرسة، من قبل من تستهدف تحسين ظروف ونوعية حياتهم.
يترتب على هذا، إشكالية طبيعة تاكتيك، إن لم يكن أيضاً استراتيجية، أي عملية تغيير أو تنوير منظمة. فقبول المجتمعات للتغيير، يلزمه مسبقاً ليس فقط اهتزاز، ولكن في بعض الحالات، انهيار حالة الاستقرار، وليس فقط مجرد الضيق بها. فما شهدناه من انقسام الشعب المصري إزاء ثورة 25 يناير، ومعارضة قطاع كبير من الشعب لمبدأ الثورة على ما هو قائم، رغم أن الأغلبية الكاسحة لهذا القطاع، ممن كانوا يعيشون حالة تذمر دائم، واقتصار حدود ثورة "الثوار"، على صب النقمة على الحاكم ورجاله، وليس على المنظومة الفكرية التي تسود المجتمع بكاملها،
يدل على أن التغيير الحقيقي والعميق، لحالة متردية، فقدت فيها المنظومة الفكرية والأخلاقية للمجتمع صلاحيتها تماماً، لن يتحقق إلا بعد حدوث انهيار كامل في المجتمع ومقدرات وانتظام حياته. فعندها فقط لن يجد الناس مناصاً من البحث عن الجديد، ولم يعد لديهم ما يحرصون ويخافون عليه. لو صح هذا، فإن عملية "هدم القديم" تكتسب أولوية، قبل أن نتطلع إلى التفكير في جديد قد يتخلق في "الأرض اليباب". يبدو الأمر مرعباً، وذو ثمن باهظ، يصعب على مجتمعات من عشرات الملايين دفعه واحتماله.
كل من الشعب العراقي والسوري، دخل الآن بالفعل مرحلة "الفوضى"، لكننا نحجب عنها وصف "خلاقة"، حتى تتبين لنا مدى قدرة الشعبين، إلى إبداع الجديد، القادر على نقل هذه الشعوب إلى مرحلة تالية، مختلفة تماماً عن كل ما سبق. "الفوضى" ليست وصفة سحرية، قادرة بذاتها على تحقيق المطلوب. فهي ليست أكثر من فرصة، أو بيئة تسمح وتدفع للبحث عن جديد يتخلق في رحمها. وكما أن هناك "مجرد احتمال" لولادة الجديد الأكثر رقياً وتحضراً وصلاحية للعصر، بقدر ما الاحتمال قائم، أن تظل شعوب تتخبط في الفوضى، حتى الفناء!!
هذا الثمن الباهظ أو غير المحتمل، للتغيير عبر "الفوضى الخلاقة"، يدفعنا للبحث عن طريق آخر أقل كلفة. الحقيقة أن الرفض التلقائي للتغيير، الذي تحدثنا عنه، من قبل الأفراد والمجتمعات، التي تعيش حالة استقرار نسبي، هذا الرفض تختلف درجته، باختلاف الأفراد والمجتمعات، وفق درجة المرونة العقلية والسيكولوجية، وكذا طبيعة درجة هيمنة أو بطريركية الثقافة والأيديولوجية المتوطنة. هناك من يكفيهم بعض القلق، الناجم عن سلبيات المنظومة السائدة، لكي يبدأوا رحلة البحث عن الجديد. فالتغيير التدريجي، أو ما يسمى الإصلاح،
نرى نماذجاً منه لدى شعوب كثيرة، يقف في مقدمتها الشعب الإنجليزي، الذي لم يمر بمرحلة ثورة شاملة، تدمر الأبنية القديمة، كما حدث في الثورة الفرنسية. وتشهد الآن بعض إمارات الخليج العربي، عملية تطور وتحضر، تثور الأسئلة حول عمقها الثقافي، ومدى ما يطال المواطنين الخليجيين الأصليين من هذا التطور والتغيير. السؤال تحديداً هو: هل لدى مختلف مجتمعات الشرق الأوسط، جموعاً وأفراداً، درجة من القابلية والمرونة الفكرية والسيكولوجية للتغيير، سواء السلمي الهادئ، أو عبر صراعات ساخنة محدودة، بعيداً عن دائرة "الفوضى الخلاقة"، وصراعاتها باهضة الثمن؟!!
نقلا عن إيلاف