بقلم المحامي نوري إيشوع
أنا طفلٌ من وطنِ الإباءِ و الكرامةِ، وطن المقاومة و الشرف و العزة، إستيقظتُ في الصباحِ الباكر، تناولتُ فطوري بعد إلحاح والدتي، قبلتُ أيادي والديّ كالعادة و قبلتُ جبين شقيقتي، حملتُ حقيبتي المدرسية و ذهبتُ على عجلةٍ من أمري الى مدرستي التي تبعد ما يقارب الميلين عن منزلي، شعرتُ و انا أجتاز الطرقُ المتعرجة، بانني على موعدٍ مع القدر، وصلتُ المدرسة، استقبلني رفاق الدراسة ببسمتهم المعهودة التي تعكس براءة طفولة و نقاء ملاك و قلوب غضة مفعمة بالمحبة.
مع بداية الحصة الأولى، سمعنا إنفجاراً مدوياً هز أركان المدرسة و غطى الدخان المنطقة بأكملها، أطلقتْ سيارات الأسعاف و النجدة صفاراتها وسارعتْ الى نجدة الجرحى و حمل جثث الشهداء القتلى من الكبار و الصغار، فأصبحنا نسبحُ في بحرٍ من الدماء. نحن في تلك الحالة الرهيبة و الصعبة بدأنا نسمع عواء الذئاب و هي تقترب منا و تكّبر بصوتٍ عالٍ (الله أكبر! الله أكبر!). ترتفع أصواتهم كلما أقتربوا منا، قررنا دون تفكير أن نترك المكان بسرعة البرق بعد أن أدركنا ان الوحش قد اقترب و يتقدم نحونا. ذهب كل منا في إتجاه، فتهنا جميعاً بين أزقة المدينة المنكوبة.
قررتُ أن أذهب الى بيتي لأطمئن على أمي و أبي و شقيقتي ذات الثلاثة ربيعاً، تنقلتُ بحذرٍ شديدٍ بين الأزقة و البيوت المتهدمة الى أن وصلتُ الى بيتنا، لكني لما أرى لا بيتنا و لا بيوت الجيران و كأن زلزالاً ابتلعهم وبدا لي كأن هذا المكان كان مهجوراً منذُ عشراتِ السنين، فتشتُ عن اهلي في الجوار، لكن دون جدوى، لم أجدهم و كأنهم تركوا المكان منذُ زمانٍ بعيدٍ. ذرفتُ دموعي بصمتٍ، خوفاً من أن يسمعني الوحش أو أحد أعوانه فيصبح مصيري كمصير أهلي و رفاقي و جيراني!
تركتُ المكان وأنا أجرُ أذيالي، والألم يعصرُ قلبي و الدموع تسيل كشلالٍ فوق خدودي, همتُ على وجهي لا أدري إلى إين تأخذني قدمايّ بعد أن سلمتها دفة قيادتي، خلال رحلتي الحزينة و المليئة بالمخاطر والآلام، إلتقيتُ بطفلٍ يصرخ من شدة الإلم بعد أن بُترت إحدى ساقيه نتيجة الإنفجار، رإيتُ عذارء تهرول و تحاول الأختباء مني بعد أن رأتني كي لا أراها وهي شبه عارية بعد أن رماها أولاد الشر على قارعة الطريق و هي ليستْ بحيةٍ أو ميتة! رإيتُ أمرأة طاعنة في السجن تردد أسماء أولادها و أحفادها و هي تبكي.
شاهدتُ رجلا طاعناً مستلقياً على أحد الأرصفة يمسحُ دموعهِ بكفيهِ المرتجفين و يرفعُ رأسهُ للسماء طالباً رحمة الله ليخلصه من عذاب و هول ما رآه بعد أن دخلوا بيته و هتكوا عرض بناته بحضوره بعد أن ربطوه و أهانوه و ضربوه حتى أغميّ عليه! رإيتُ أمراة ثكلى تحضنُ جثامين أطفالها الثلاث وهي تقبلهم و تحدثهم كأنهم أحياء, بعد أن قتلهم المجرمون و فصلوا رأس أبوهم عن جسده وهو حي وعلقوه فوق سور دارهم. رإيتُ طفلاً رضيعا يصرخ من شدة الجوعِ و البرد بعد أن قتلوا والديه و رموه على على قارعة الطريق ليلقى حتفه المحتوم، رأيتُ عشرات من رفاقي يفتشون بين حاويات القمامة محاولين العثور على ما يقتاتون لسد رمق جوعهم و ليوقفوا به ضربات أسواط معدهم الخاوية.
في نهاية رحلتي إلتقيتُ في الألمِ، فهربَ مني مرتعباً و بدأ يختفي بعيداً وهو يكرر و يقول : أرجوكَ إيها الطفلُ العجوز، اتركني وحيداً و لا تحملني معك، لانني لا أستطيع حمل آلامك.
فتحتُ عيني بعد أن أرهقتني رحلتي الأليمة، فشممتُ رائحةُ تراب بيت أهلي، قررتُ العودةُ رغم مخاطر الطريق و لو كان يكلفني ذلك عمري لان الشر إيامه معدودة مهما صال و جال وله جولة واحدة و للحق جولات! مسحتُ دموعي من جديد و رسمتُ بسمة على شفاهي الذابلة و نظرتُ الى السماء فرأيتُ حمائم بلادي البيضاء تتجه نحوي و هي تحمل معها أغصان الغار و تغرسها في التراب من جديد، معلنة قيامة وطن!