فى ديسمبر ١٩٨٠ عقدتُ مؤتمراً فلسفياً دولياً عن « وحدة المعرفة». وكان من بين الذين طلبوا المشاركة فيلسوفان إسرائيليان: أفرونبو لاكوف من جامعة بن جوريون، وشولومو أفنيرى من جامعة تل أبيب، وزميلى المنتخب فى اللجنة التنفيذية للاتحاد الدولى للجمعيات الفلسفية. وجاء فى رسالة كل منهما الفصل بين المناخ العام وإمكان التعاون بين الشعوب على أسس ثقافية وفردية مع امتنانهما إذا قُبلت مشاركتهما إلا إذا كان لدىَّ إحساس مغاير، وأنا لم يكن لدىَّ ذلك الإحساس لأن ثمة معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل. والسلام يعنى التواصل، والتواصل يستلزم التعاون. وبناء عليه طلبت من المسؤولين الموافقة، ولكن بلا جدوى.
وقبل انعقاد المؤتمر هاتفنى المستشار الثقافى الإسرائيلى طالباً اللقاء إذا كان ذلك فى الإمكان فوافقت. وعندما سألنى عن مكان اللقاء أجبت بأنه «مركز بحوث الشرق الأوسط» بجامعة عين شمس، حيث كنت رئيساً لوحدة الدراسات الإنسانية، وقد كان. ودار الحوار حول مدى إمكانية تلبية رغبة الفيلسوفين الإسرائيليين فى المشاركة فى مؤتمر «وحدة المعرفة» فرويت له ما قمت به من محاولات فاشلة. ومع ذلك أبدى رغبة فى التعاون مع المركز فوعدته بإبلاغ رغبته إلى رئيس الجامعة، وقد كان إذ التقيته وأخبرته بما حدث.
وإذا بمدير مباحث أمن الدولة الذى تصادف وجوده يعلق منفعلاً: ما هذا الذى فعلته؟ إنه مرفوض. وكان ردى أن ما أديته يتسق مع البند الثالث من المادة الثالثة من المعاهدة المصرية الإسرائيلية والذى ينص على التطبيع فى جميع المجالات. ولهذا فأنا لا أفهم مغزى الرفض. فعلق قائلاً: «إن وزارة الداخلية ضد المعاهدة». إلا أن قوله لم يكن أول قول أسمعه من مسؤول. فثمة مسؤول آخر من وزارة الخارجية أخبرنى بذلك الرفض. أضف إلى ذلك البيان الذى وقعه ٢٥٠ من المثقفين العرب واستنكروا فيه «إعلان كوبنهاجن» ثم عقدوا مؤتمراً فى القاهرة فى مارس ١٩٩٧، أى بعد شهرين من الإعلان أصدروا منه ما أسموه «بيان القاهرة» وأعلنوا فيه تأسيس جمعية مناهضة للتطبيع.
والسؤال إذن:
لماذا مناهضة التطبيع الثقافى إلى حد الهوس؟
وأجيب بسؤال:
ما معنى التطبيع؟
التطبيع يعنى إحداث تغيير فى شىء ما بحيث يعود إلى حالته الطبيعية. فإذا أضفنا إلى التطبيع صفة «الثقافى» فمعنى ذلك أن الحالة الثقافية بين الشعبين المصرى والإسرائيلى حالة مرضية والمطلوب عودتها إلى الحالة الطبيعية، أى الصحية، إلا أن هذه الحالة الصحية لن تعود إلا بفضل تدخل الأطباء، والأطباء هنا هم المثقفون ومعهم الأصوليون. بيد أن المثقفين قد امتنعوا عن أن يكونوا هؤلاء الأطباء فأصبحوا بدورهم مرضى.
والسؤال إذن:
لماذا هم على هذا النحو؟
لأنهم فى إيجاز لا يعترفون بـ«وجود إسرائيل». وإذا قيل لهم إن هذا الوجود موجود قالوا إنه إذا كان ذلك كذلك فمعنى ذلك أنه لابد من تدميره. وبناء عليه تكون المفاوضات- سواء مباشرة أو غير مباشرة- مرفوضة لأنها وَهم. ولم يكن فى الإمكان إزالته إلا بالبحث عن بديل ثقافى آخر. وقد تجسد ذلك البديل فى «تحالف كوبنهاجن». إلا أنه دخل فى تناقض مع «تحالف القاهرة». واللافت للانتباه هاهنا أن التناقض على نحوين: تناقض حاد وتناقض رخو. الأول يستلزم إقصاء طرفٍ لآخر، أما الثانى فيستلزم تداخل طرف فى آخر، وعندئذ نكون فى حاجة إلى طرف ثالث يرتقى بهما إلى الأفضل.
والسؤال إذن:
مَنْ هو ذلك الطرف الثالث؟
نقلا عن المصري اليوم