الأقباط متحدون - لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب
أخر تحديث ١٩:٤٠ | السبت ٦ ديسمبر ٢٠١٤ | ٢٧هاتور ١٧٣١ ش | العدد ٣٤٠٧ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب

 مفيد فوزى
مفيد فوزى

 هى شطرة فى بيت يسكن قصيدة غنتها فيروز فى مطلع عمرها الذى وصل إلى محطة الثمانين وتبدأ عاماً آخر، شطرة شطرتنى نصفين، حركت أشجانى وحرضت على الدمع، القصيدة من تسعة أبيات من شعر الحب العفيف، ذابت فيه فيروز مطربة الفرح والحزن ومرجعية الشجن وقارورة العاطفة، إن شاعراً عربياً بحجم عمر أبوريشة قال لعاصى الرحبانى بعد حفل بمعرض دمشق الدولى الذى اعتادت الفيروزة أن تغرد على خشبته: خذوا كل شعرى وأعطونى قصيدتكما «لملمت ذكرى لقاء الأمس» وخصوصاً هذا البيت البديع القائل:

 
نسيت من يده أن أسترد يدى
 
طال السلام وطالت رفة الهدب
 
* وسط أحداث جسام تعيشها المحروسة، ولعل التاريخ يسطرها فى صفحاته، فإن مصر «عادت شمسك الذهب» وتلمع أيقونة فيروز التى نحيا على ضفاف حنجرتها تلمع فى كل الدروب، وتملأ الأفق نغماً عذباً سلسبيلاً يسقينا كلما شعرت الأذن العربية بالعطش، وقبل أن أستطرد ويطوينى حب فيروز، وهو الساكن فى أعماقى لأنها اعتادت أن تصالحنى على نفسى وأسامح بشدوها الزمن، لابد من إفصاح جوهرى، لأنه فى الذوق فرمانات تحدد لى ما أحب، وما أرغب أو أشتهى!! فأنا أحترم هذا العطاء الكلثومى صاحبة الصوت الأسطورى الذى صحوت عليه فجر أيامى، إذ كنت أسهر أول كل شهر عند صديق بحجة المذاكرة (!) وتغذى الست خيالى المجهوم حين كان القلب خاليا «وعندى حنين ما بعرف لمين» كنا نتمايل برؤوسنا وهى تغنى يا ظالمنى وغلبت أصالح فى روحى، ولما كبرت واستقام العود ودلفت إلى الحياة، صافحنى صوت فيروز لأول مرة فى بيت دمشقى يسكنه نجاة قصاب حسن المحامى واحد من دراويش فيروز، وكان أن تعرفت عليها مع هشام أبوضهر الكاتب اللبنانى فوق ربوة جبل أنطلياس فى بيروت وعاد صوتها يصدح من راديو عمان الأردنية.. و.. ووقعت فى غيام الصوت وأدمنته وسكن وجدانى وكأنى أسمع تراتيل منغمة أو تغريد عصفور. صدقت يا عزيزى نزار قبانى يوم قلت لى فى مقهى برازيليا فى بيروت: «من لم يسمع صوت الملائكة، يسمع فيروز».
 
* أحببت فيروز واعتبرتها - فى خيالى - بشراً من كوكب تانى، وكأنها مخلوق لا يغضب ولا يصيح ولا يأكل مثلنا ولا يذهب للحمام، ولكن حين جلست معها وجهاً لوجه بلا قيود وذلك فى أمسية مهرجان جرش الأردنى واقتربت منها ومن بشريتها، عرفت خفة دمها وعرفت رهافة حسها ورصانة رأيها وصوتها المسكون بالشجن والثورة، عرفت «نهاد حداد» اسمها الحقيقى الشابة الوديعة التى صارت على أيدى الرحبانية أسطورة تلف العالم بصوتها المتفرد. عرفت فيروز التى ترد على أى سؤال بكلمة أو كلمتين وتضحك من قلبها وتطوى جراحها الداخلية طوال العمر بالشمع الأحمر، هذه امرأة «خلقت لتغنى» وتسقينا من شهد الغناء حلاوته، فيروز التى لا تسمع ما غنت بالأمس وكأنه «فعل ماضى» تنتظر له بكل الود لأنه أعطاها الحاضر والمستقبل، فيروز التى تشعر بأمومتها حاضرة دوماً، فيروز عاشقة الشعر وتنام فى حضن أبيات تهواها، وتسهر مع قصائد تفتنها، تمضع كلمات ليست كالكلمات، بجوار سريرها دواوين، وفى درج دولابها أكثر من نوتة موسيقية لمشاريع غناء، الشعر عندها من مقومات حياتها وقد يسكنها بيت فى قصيدة شعر أن حروفه قد عزفت على أوتار قلبها العارية. فيروز التى تغنى القصائد الصعبة بالسهل الممتنع عبر صوت أنثوى ينقلنا لحالة الطرب الاستثنائية فى دقائق ما تعجز عنه مطربة تغنى بالساعات.
 
* ليس صحيحاً ما يعتقده بعض الناس أن فيروز «مغنية تسكن حنجرتها آلات غربية» والصحيح أنها صاحبة صوت استطاع أن يطوع أى مسحة غربية «داخل قوالب شرقية» تأخذ بالعقل والألباب وتصيح فى وجهها «عودك رنان»، إنها فيروز التى يأتى لنا صوتها من آفاق بعيدة ومن هامات الشجر ودوران السواقى وطبول المداحين، فيروز التى تملك صوتاً أكثر من ذاكرتنا وشهرتها وصلت إلى أوطان بعيدة على سطح الكرة الأرضية، فيروز التى ارتبطت بفنجان قهوتنا الصباحية، ساكنة الجبل «التى تزوجت عاصى الرحبانى فى ١٦ يناير ١٩٥٥، فكان ولادة جديدة للغناء والموسيقى، وعيداً للأوتار انطلق من لبنان»، وحين انفصلت فيروز عن الرحبانية كانت - على حد قول مغنية فرنسا الشهيرة ميراى ماثيو «من الانهيارات التى عصفت بلبنان» ولكن كاتباً لبنانياً أنصف فيروز يوم قال «فيروز ليست بقرة تحلب أو دجاجة تفقس بيضاً من ذهب»، وقد ساندها الأصدقاء بحق فى محنتها الشخصية، وصداقات فيروز معمرة فى قلبها طويلاً، واحدة من هذه الصداقات الشاعر «أنسى الحاج» الذى رحل منذ ثلاثة شهور، وكانت فيروز قد أرسلت له باقة ورد على قبره تحمل كلمتين «أنسى وداعاً» أنسى الحاج الذى قال «إن أعظم مكافأة لشاعر أن تغنى فيروز قصيدة له»، وقد بكى مرسى جميل عزيز شاعرنا المصرى الحساس يوم اختارت له فيروز قصيدة «سوف أحيا» الباعثة على التأمل والحيرة والتسليم بالقدر، إنها فيروز كتلة المشاعر التى يقول عنها اللبنانيون «إنها العمود السابع»، فهى تغنى قصيدة ما، لا تنقلها للشيوع فحسب، بل لأنها «تحتوى الشاعر فوق شعره بشعر لم يكن فيه»، إن الانفتاح على العالم يجسده اثنان من رموز لبنان «جبران خليل جبران وفيروز» إنها الأصوات اللبنانية الأكثر تعبيراً عن الهوية.
 
* وصفت لى مرة فيروز، فلمون وهبة التى غنت له أكثر من ٥٠٠ أغنية بأنه فنان «بينه وبين الفشل خصام» إنه واحد من الذين أشعلوا الشجن النادر فى صوت فيروز بمواويله واستخرج من حنجرتها الذهبية اللآلئ، ورغم هذا الزخم العبقرى من الموسيقى والشعر، فلم تحظ ما غنته فيروز بالدراسة أو التمحيص كظاهرة أدبية، وإن حظيت موسيقاها ببعض الدراسات النقدية، إن العمود السابع فى هياكل بعلبك سافرت إلى كل الدنيا وغنت «نقلت إليهم فيروز شحنة الجمال والشجن فى شدوها ولو لم يعرف رواد حفلاتها العربية كلغة» كما قال لى الشاعر الأردنى الفيروزى حيدر محمود، إنها فيروز التى يتهدج صوتها حين تغنى قصيدة، وتصل إلى البيت القائل
 
أنا شهرزاد القصيدة وصوتى غناء الجراح
 
أنا كل يوم جديدة أهاجر عند الصباح.
 
ومازلت أذكر لقائى مع فيروز فى صحبة أصدقاء مقربين ذات أمسية فى ميناهاوس الذى يقع فى حضن الأهرامات، وكنت أعتزم حوارها لكن المشروع صادف متاعب جمة، فى تلك الليلة انتزعت من جوف فيروز اعترافاً بأن الأغنية التى ترددها لأم كلثوم فى وحدتها هى «هو صحيح الهوى غلاب؟»!
 
* من بين الكتب المهمة التى تناولت دور فيروز فى إحياء التراث القديم وتدعيم الموشحات والقصائد كتاب «فيروز وقوميتنا الموسيقية» للباحث المخلص لفيروز وللفكر الموسيقى والتراثى الأستاذ «على كمونة» الذى قدم فى كتابه المهم بحثاً مطولاً فى ٢٣ صفحة عن أحدث ألبوماتها «إيه فى أمل» وتضمن نخبة من النوتات الموسيقية لأهم أغنياتها، إن الأستاذ على كمونة يذكرنا بعبارة قالها محمد الموجى فى أحد أحاديثه الصحفية «أعددت لحناً هو الأروع بين ألحانى، وأتمنى أن تشدو به فيروز»، وقال: أنادى عليها فهل تسمعنى؟ يقول الأستاذ على كمونة الذى أعتبر كتابه إضافة للفكر الموسيقى: «إن السنباطى عظيم الموسيقى قدم لفيروز ألحاناً مهمة وحفظت فيروز الألحان، وشدت بها»، وقال السنباطى: «لقد أظهرت الطبقات التى كانت مخنوقة فى صوتها وارتضت أن تغنى بالطريقة التى أريدها» ومات السنباطى قبل أن يسمع اللحن من فيروز، ومات عاصى قبل أن يصغى لتجربة فيروز مع السنباطى، وكانت فيروز معجبة برأى أم كلثوم فى السنباطى وكلما تحدثت عنه حين قالت: إنه أعظم من لحن القصيدة، ولم تطلق فيروز سراح ألحان السنباطى إلى الآن! هل كما يقول الأستاذ على كمونة: لقد رفضت فيروز غناء ألحان السنباطى والموجى، عملاً بسياسة الأخوين رحبانى القائمة على الرفض القاطع لتمصير فيروز باعتبار أنهما أصحاب مدرسة لبنانية موسيقية، ولكن هل غناء فيروز لألحان الموسيقار عبدالوهاب «سكن الليل ويا جارة الوادى ومر بى وسهار بعد سهار» تمصير لفيروز؟! فيروز تنافس أبوالهول صمتاً!!
 
* ومازال السؤال مطروحاً: متى تفرج فيروز عن ألحان السنباطى؟ متى تطلق سراحها؟ أتساءل بلهفة المشتاق منطلقا من جنسيتى الخاصة كفيروزى، وكمصرى متحيز لأيقونة بلدى العبقرية الموسيقية الفريدة رياض السنباطى، وألحان السنباطى «إضافة جديدة» لجارة القمر، لن يقلل من شأن المدرسة الرحبانية اللبنانية، ولن يهز عموداً فى هياكل بعلبك ولو صدقت نبوءة الصحفى اللبنانى الكبير سعيد فريحة بإنشاء حزب فيروزى، لكنت - يا ست نهاد حداد - من المؤسسين.
 
قومى من نومك يا فيروزتنا تمتمى بصلاتك للرب، وباسم العذراء سيدة حريصاً، افتحى أدراج دولابك الخاص، لتعثرى على خط السنباطى فوق نوتة موسيقية ولتعثرى على شريط الكاسيت الذى يحمل صوتك وأنت تحفظين اللحن، لتكن هذه مفاجأتك لنا فى عامك الواحد والثمانين.
نقلا عن المصرى اليوم

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع