د. غسان نعمان ماهر الكنعاني
5- إشتداد العقدة الإيرانية – مرحلة 1979-1991
تعتبر 1979 سنة فاصلة في حياة العراق والعراقيين، بل والمنطقة والعالم، ففي هذه السنة حصل شيء خارج عن السياق وهو خروج إيران من لعبة الأمم، فقد استطاع الشعب الإيراني، بعد توفر القيادة الحكيمة التي توكلت على الله تعالى بشكل كامل ولم تجعلها حسابات الآخرين المعتادة تهتز شعرة عن طريقها، أن ينتزع استقلاله التام، ففي لحظة تاريخية حاسمة استطاعت القيادة التاريخية أن "تخطف إيران خطفاً بعيداً عن لعبة الأمم". (من يطلع على مفردات في حياة السيد الخميني رحمه الله تعالى، مما نشر، ومما لم ينشر من المطلعين على بعض أحواله عندما كان في النجف في العراق يعلم أنه أمام شخصية استثنائية حقاً، ومثل ذلك التغيير الهائل يحتاج إلى قيادة استثنائية بكل تأكيد.)
لم يتغير فقط النظام في إيران من ملكي استبدادي مرتبط بالغرب صديق لإسرائيل، بل حليف لها ممول لها بستين بالمائة من النفط الذي تستهلكه، إلى نظام جمهوري انتخابي خارج عن سلطة الغرب تماماً عدو لإسرائيل (نستطيع قول هذا بعد 35 سنة من النهج المستمر الذي لم يتغير رغم قساوة الظروف والحرب بأشكالها المختلفة منذ اليوم الأول ولحد الآن، فلم يبق من يرفض هذا إلا من أعماهم الحقد الطائفي ليس إلا وهم يعلمون)، بل العدو الأول لها، حليف للفلسطينيين والعرب الراغبين في التحالف، بعد أن أنزل علمها من سمائه ورفع علم فلسطين الذي يرفع أول مرة فوق شيء اسمه "سفارة فلسطين" (ليرتفع في نفس الوقت علمها – إسرائيل – في سماء البلد العربي الأكبر مصر)...
لم يتغير النظام فقط، ولكن أدى "الزلزال الإيراني" كما سماه الغرب وإسرائيل إلى "دخول الإسلام في كل بيت في العالم" على حد تعبير السيد فضل الله رحمه الله وهو يصف ما فعله السيد الخميني، وإلى بدء مرحلة جديدة من النهوض الإسلامي الذي استفاد منه حتى أشد أعداء الثورة الإيرانية من سلفيي الخليج حيث صاروا قوة يحسب لها الحكام هناك حساباً فيدخلون برلمان الكويت ويحتلون المسجد الحرام في الحجاز، ناهيك عن الدفع الكبير الذي حصلت عليه جماعة الإخوان المسلمين وما يتفرع منها.
ولكن ماذا عن العراق؟
لا يمكن أن يتأثر بلد بما يحدث في إيران كما يتأثر العراق. فالجوار، والمذهب الشيعي، والمرجعيات المشتركة للكثير من أتباع هذا المذهب، والمصالح المتداخلة في منظمة الأوبك وشط العرب والخليج والعلاقات المتحركة مع الغرب والشرق والعالم العربي والإسلامي، إضافة إلى الحركة الكردية المسلحة في العراق بالخصوص، كل هذا جعل من أثر الزلزال الإيراني على العراق كبيراً على الجميع ولا يمكن تفاديه.
وبما أن هذه العوامل المذكورة أعلاه مشتركة مع دول الخليج العربية، فإن الأخيرة ساهمت بشكل مباشر في الأحداث التي جرت بعدها.
أما الدول الغربية فإن الأثر عليها، وعلى حليفتها، بل ربيبتها إسرائيل، حتم عليها التحرك السريع من أجل احتواء الموقف ووقف تداعي الأحداث إلى تراكم الخسائر بعد خسارة إيران، وهي خسارة كبيرة جداً لأنها ليست في خسارة حليف وحسب ولكن انقلاب الحليف إلى عدو، فهي خسارة مضاعفة.
ولئن كان هناك شك في تمكن إيران الجديدة من أن تنهج نهج الاستقلال التام كما كان يدعو قائدها وزعيم ثورتها، فإن الشك بدأ يزول عندما وجد الغرب أن إيران الجديدة لا تريد القيام بما قامت به الثورة المصرية مثلاً عندما حاصرها الغرب فاضطرت بقيادة زعيمها عبد الناصر رحمه الله إلى التوجه نحو الشرق لشراء السلاح وتمويل السد العالي (طبعاً، لو كانت مصر دولة نفطية كإيران فلربما كان باستطاعة عبد الناصر البقاء مستقلاً تماماً بعيداً عن الكتلة السوفيتية، ولكن هذا ما كان ليغير الكثير لوجود خلل أساسي في نمط الحكم في مصر الثورة وأسلوب حكمها فيما بعد). فقد كانت إيران أحوج ما تكون إلى حليف قوي بعد شن الحرب عليها، وتوقف الروس مدة عام كامل عن توريد السلاح وقطع الغيار إلى النظام العراقي على أمل جذب إيران باتجاههم
ولكنهم فشلوا في ذلك إذ بقيت الثورة في إيران تعلن أنها "لا شرقية ولا غربية" وزاد الطين بلة الموقف من الاحتلال الروسي لأفغانستان واحتضان جماعات من المقاومة الأفغانية، فعاد توريد السلاح إلى العراق (وقد فضح أنور السادات ذلك عندما أعلن في خطاب مذاع أنه باع للعراق قطع غيار روسية لأنه "لا ينسى جميل العراق في وقوفه مع مصر في حرب أكتوبر"، مع أن البيع كان سرياً لأن صدام لم يكن يريد الإعلان عن الموقف المغاير تماماً لموقفه الشعاراتي ضد السادات وكامب ديفيد، وهو يتزعم جبهة الصمود والتصدي الخ الخ وأراد السادات "تسويد" وجه صدام – ولكني لم أفاجأ لأن ابن عمي عدنان ثابت السامرائي / العقيد وقتها والفريق أول الآن في وزارة الداخلية، ساهم في تأسيس الحرس الوطني بعد 2003، بعد أربعة أشهر من خروجه من السجن حيث سجن بتهمة التآمر على صدام منتصف التسعينيات / أخبرني وقتها أنه ذهب في وفد صغير برئاسة ثابت سلطان التكريتي قائد القوة الجوية لشراء قطع غيار من مصر، حيث ذهبوا عبر جدة وأداء العمرة!)
إذاً، الفرصة سانحة تماماً لعراق البعث-صدام "حتى أضرب إيران على راسهه" على حد تعبير صدام نقلاً عن صلاح عمر العلي (بعد لقائهما بابراهيم يزدي وزير خارجية إيران في كوبا واتفاق صدام ويزدي على لجان ولقاءات لتصفية الأجواء، بينما كان صدام يريد شيئاً آخر). فكانت الحرب، التي ساهم فيها – بدءاً من التخطيط لها – الغرب وبعض العرب، وأوله إزاحة أحمد حسن البكر من السلطة لأنه كان يرفض القيام بأي عمل عسكري ضد إيران (مما يدرسه الطلاب في الكلية العسكرية العراقية أن إيران مسيطرة عسكرياً على العراق لأن الجبال تقع داخل الحدود الإيرانية مباشرة فتشرف على السهل العراقي ما يجعل القيام بعمل عسكري عراقي ضد إيران مجازفة كبيرة)، ثم ضرب محاولة الوحدة مع سورية بإعدام جماعة الحمداني وتفرد صدام بالسلطة بشكل معلن.
فأين العقدة الإيرانية من كل هذا؟
إشتدت هذه العقدة بشكل كبير من خلال أثرها المباشر على شقيها – السني والشيعي، وذلك من خلال:
1- الحرب الإعلامية المتبادلة بين البلدين، بدءاً من رسالة التهنئة من البكر للسيد الخميني التي تأخرت أسبوعين فيما أتذكر، ثم رسالة الجواب التي قال فيها السيد "السلام على من اتبع الهدى" في إشارة إلى عدم استحقاق الحكم البعثي لسلام المسلمين. (مرت فترة تهدئة ثم عادت الحرب الإعلامية بعد قليل.)
2- تسفير العراقيين من التبعية الإيرانية، وعددهم حوالي نصف مليون إنسان، جرت فيها من الممارسات التي لا يقوم بها أخس الأنذال ما لو كان قد جرى على غير هؤلاء المظلومين لقامت الدنيا – وجميع هؤلاء شيعة. ذلك التسفير كان واضح المعالم، لأن القرار 666 كان من فقرتين، الأولى القاضية بالتسفير، والثانية باستثناء الأرمن من القرار (لعل جميع الأرمن العراقيين من التبعية الإيرانية لأن نصف الأرمن الهاربين من مجازر الأتراك سنة 1915 أو أكثر من النصف هربوا إلى العراق، والآخرون إلى سورية)، وعليه فإن المقصود هم الشيعة تحديداً.
3- الحرب الفكرية العقائدية المذهبية من خلال المؤلفات التي كانت تصدر من دور نشر بعضها في الأردن بتمويل عراقي وبعضها في الخليج ومصر بتمويل وهابي، حتى وصل مجموع هذه المؤلفات في منتصف الثمانينيات إلى ما يقرب من 130 كتاباً حسب إحصاء بعض الإخوة (بعض المؤلفات كانت تكاد تكون نسخة طبق الأصل من بعضها الآخر، فالواضح أن المؤلف كان يدفع إليه مبلغ من المال ويسلم كتاب أو كتابان ويطلب منه النسج على نفس المنوال).
4- الهجوم على المرجعية الشيعية من خلال بعض هذه المؤلفات التي تلبست بلباس الهجوم على السيد الخميني وكأنها بصفته الشخصية ولكن الحقيقة هي أن الهجوم كان ضد عقائد شيعية واضحة. هذا يعني الهجوم على جميع الشيعة الذين يقلدون السيد الخميني، كما كان على جميع الشيعة الذين لا يقلدونه ولكن يحبونه كزعيم تاريخي أو كمرجع شيعي له الاحترام التام على أية حال (وكان هذا حال الكثير، إن لم يكن الأكثر ممن كان يقلد حتى السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله على الرغم من انقسام الساحة الشيعية بشكل شرس أحياناً بين مقلدي المرجعين داخل إيران وخارجها، ناهيك عن مقلدي الشهيد الصدر).
5- الهجوم على المرجعية الشيعية بأشخاصها كما في حالة مرجعية السيد محمد الشيرازي، وهي مرجعية عراقية ذات أصول إيرانية، تم ضربها وضرب من يرتبط بها.
6- الهجوم على المرجعيات الثانوية بتسفير مراجع إيرانيين – على قلة أعداد مقلديهم – كالسيد عبد الله الشيرازي والسيد محمد القمي.
7- الهجوم على المرجعية الشيعية بشخصها، ولكن الشخص غير العادي، ألا وهو المفكر الإسلامي والمرجع الديني والعبقري العراقي السيد محمد باقر الصدر رحمه الله تعالى، وهو هجوم لم يستطع حكم البعث-صدام جعله في إطار ضيق كما يسعى في هذه الحالات، لأن السيد الصدر نفسه قد أعلن ثورته عليهم، فكان ما كان مما يعرفه الجميع حتى وصل إلى حد إعدام السيد وأخته أعلى الله مقامهما في الدنيا والآخرة.
8- الهجوم على الحركة الإسلامية من خلال القرار الفريد ضد حزب الدعوة القاضي ليس فقط بحكم الإعدام على من انتمى إلى هذا الحزب، فهذا مفروغ منه ولا يستغرب من الحكم البعثي، ولكن هذا الإعدام لمن انتمى "بأثر رجعي" أي حتى لو كان ترك الحزب قبل القرار، بل ربما صار عدواً للحزب! أكثر من ذلك، فقد تضمن قرار الإعدام كل من تداول نشريات حزب الدعوة وتداول أفكاره! وبأثر رجعي!
9- ولكن هذا الهجوم لم يقتصر على حزب الدعوة، بل شمل كل من ينطبق عليه الوصف من الحركة الإسلامية الشيعية كمنظمة العمل الإسلامي مثلاً. وهذا يعني أعداد كبيرة من الشباب والرجال والمعممين وعوائلهم وأصدقائهم وكل من يمت إليهم بصلة.
10- ضرب الشعائر الحسينية بجميع أشكالها، أي جميع مجالس التعزية سواء التي بمناسبة ذكرى عاشوراء الحسين (ع) أو باقي مناسبات النبي (ص) والزهراء (ع) وأئمة الهدى (ع)، بل وجميع الاحتفالات الشيعية بالمناسبات الأخرى كولادات المعصومين (ع) أو بيعة الغدير أو إحياءات ليالي رمضان، بحيث صارت محاصرة إلى درجة كبيرة، حتى كان النظام يعلن عن مؤامرة سورية (!) لتفجير مرقد الإمام الحسين (ع) مثلاً، وعليه إغلاق المرقد تماماً!
11- وقف استيراد الكتاب الإسلامي الشيعي، القادم من بيروت في معظمه، حتى صارت دور النشر اللبنانية تئن من هذا بحيث صارت تشترك أحياناً في الطباعة والنشر.
12- مزج التاريخ بالحاضر فيما يخص فارس، فصار الإسم الرسمي لحرب صدام ضد إيران "قادسية صدام"، ورسمت بانوراما القادسية، وجيء بالمخرج صلاح أبو سيف والممثلين المصريين الكبار ليشترك معهم ممثلون عراقيون في فيلم "القادسية"، وكله في إطار غسيل الدماغ أن الذين انتصروا على الفرس الساسانيين هم العرب وليسوا المسلمين وأن الحكم الإيراني الحالي (بعد الثورة) إنما هو حكم فارسي وليس إسلامياً كما يدعي، ووصلت إلى أن "الخميني" تعني "الإخميني" وغيرها من الرقاعات! وهذا كله في المدارس والشوارع والإعلام وكل مكان. هذا كله يقول بشكل غير مباشر: أيها الشيعي العراقي إذا كنت مع إيران فأنت مع الفرس الساسانيين، وإذا أيدت الخميني فأنت تؤيد الفرس.
13- وصل الحد إلى تكفير الفرس بإضافة وصف "المجوس" إليهم، وهذا يعني بالضرورة تكفير الشيعة العراقيين الذين يتمذهبون بنفس مذهب أولئك "المجوس"، ولم يتوقف الإعلام العراقي عن إطلاق هذه الصفة إلا بعد الطلب من المرحوم ضياء الحق رئيس باكستان وقتها. (ولا مبالغة في هذا، فاليوم يستطيع من يريد أن يطالع لمدة ثوان في اليوتيوب مثلاً ليجد أن كلمة "الفرس المجوس" تطلق بكل أريحية! اليوم استلمت إيميل يصف المطبّرين أنهم "فرس مجوس" مع أننا لا نعلم أن الفرس المجوس كانوا يطبرون، بل أن التطبير والزنجيل دخل العراق مع الحجاج الأتراك، ولكن مع من تتحدث...)
14- فماذا بقي بعد؟ التدخل حتى في النصوص الشيعية! قام صدام بإلغاء جملة ((لعن الله أمة قتلتك، ولعن الله أمة ظلمتك، ولعن الله أمة سمعت بذلك فرضيت به)) من زيارات الإمام الحسين (ع) على أساس أن هذا لعن "من الفرس" لـ "أمة العرب"! (طبعاً أنت تعجز مع بعض العقول عندما تقول لهم كيف أن الأئمة (ع) وهم هامة العرب وأشرف من فيهم يلعنون أمتهم؟! فإن قيل: هذا اللعن من الفرس، قلنا لهم: ولكن الأمة من الواضح أنها "الجماعة" التي قتلت الحسين (ع) وظلمته ورضيت به وإلا فإن الزيارة نفسها تزور الشهداء من أنصاره وتصفهم أعظم وصف بحيث يتمنى الزائر أن يكون معهم؟ مرة أخرى، مع من تتحدث...)
15- إشتداد الحرب في القصف الإيراني الجوي للعراق، ثم القصف بالمدفعية في البصرة والعمارة وبعض مناطق الوسط، وصولاً إلى القصف بالصواريخ منتصف الثمانينيات، وهذا يعني أذى يصل إلى العراق والعراقيين من إيران بغض النظر عن الأسباب.
16- الأعداد الهائلة من العراقيين الذين يقتلون ويجرحون ويؤسرون في جبهات القتال، والنزيف المستمر لشباب العراق من الحقول المدنية إلى الجبهات، مع تأثيره المباشر على كل من له صلة بهم من أمهات وزوجات وأبناء وأقارب.
17- إستمرار إيران برفض إيقاف الحرب رغم الوساطات المستمرة من منظمة المؤتمر الإسلامي والأمم المتحدة والجزائر، حتى الانسحاب من الأراضي الإيرانية المحتلة ومعاقبة المعتدي، وطبعاً المعتدي صدام فلا يمكن معاقبته. هذا الرفض كان له أبلغ الأثر في تأجيج المشاعر العراقية ضد إيران، وبضمنها الشيعة الذين كان معظم الذين يقتلون في الجبهات أبناؤهم إضافة إلى باقي الآثار السلبية للحرب واستمرارها.
18- الأعداد المتزايدة للعراقيين المتواجدين في إيران – ما بين مسفرين من التبعية الإيرانية وفارين بأنفسهم من الحركة الإسلامية أو من العسكريين الهاربين من الجبهات إلى داخل إيران – وتزايد نشاطهم المضاد للحكم العراقي والذي وصل إلى القتال في الجبهات ضد القوات العراقية، وأحياناً الدخول في الأراضي التي كانت تحتلها القوات الإيرانية مؤقتاً في هجماتها.
وعليه، فإن...
السني العراقي – صار يشعر بضغط جميع هذه الأوضاع، الأمنية والعسكرية والاقتصادية، ويعصبها أو بعضها على الأقل برأس إيران، وبالمعية الشيعة أو بعضهم على الأقل خصوصاً حزب الدعوة الذي صار يوصف به كل شيعي معاد للحكم. وكانت القصص المفبركة تدخل في عقول الكثيرين، لا يسع المجال لذكرها، ولكن يكفي القول أن أول قصة مفبركة تهيئة للحرب كانت عندما ألقيت قنبلة على موكب تشييع قتلى تفجير جامعة المستنصرية الذي كان يستهدف طارق عزيز كما قيل – اللطيف أن تلك القنبلة اليتيمة ألقيت أمام الموكب بمسافة كبيرة لا يمكن أن تصيب أحداً، والألطف منه أنها ألقيت من داخل المدرسة الإيرانية في الوزيرية! وقس على هذه ما سواها.
لولا الخميني وثورة إيران ما كان ليحصل هذا.
أكيد، الشيعة عجم، أو هم مع العجم، أي مع إيران، إذاً الشيعة يتحملون وزر ما يجري.*
الأسرى السنة يقتلونهم.
إسرائيل قصفت مفاعل تموز لأن الرادارات باتجاه إيران (!) فلولا إيران كنا سنسقط الطائرات الإسرائيلية.
الشيعة يقولون أن الأئمة يعلمون الغيب، أي يؤلهونهم، فهم كفرة... طبعاً، نعلم ذلك، أليسوا يقولون بعد الصلاة "خان الأمين" ثلاثاً؟!
لماذا لا يوقف الخميني الحرب ويجنح للسلم، إذاً هو لا يسير حسب القرآن.
الشيعة يلعنون أمة العرب مع أنهم هم الذين قتلوا الحسين (ع) (هذه قوية لحد الآن، لعلي قرأتها من الإيميلات الشتائمية التي تصلني عدة مرات في هذه الأيام).
لو نجح الإيرانيون في دخول العراق فسيذبحوننا.
مهما قالوا أهم ضد إيران فمن المستحيل معرفة الحقيقة لأنهم أهل تقية.
وهكذا، جميع ما حصل من تغيرات على مستوى الدولة والمجتمع بعد ثورة إيران والحرب العراقية الإيرانية الطويلة أثر بشكل مباشر على "العقدة السنية" تجاه إيران، فصارت:
(1) أشد ترسخاً، لأن العلاقة الشيعية العراقية بإيران فتحت جميع ملفاتها – الأصول والمرجعيات والعقائد
(2) أكثر امتداداً إلى العقائد الشيعية بشكل صريح وهو ما يباعد بين الناس حتى ولو على مستوى داخلي غير مصرح به
(3) ألصق بالمشاعر نتيجة الأذى اللاحق من فقدان الشباب بين قتيل وأسير ومفقود
(4) أوسع إلى الخوف من أي انتصار للإيرانيين، وبالتالي صار الحفاظ على الحكم البعثي الصدامي ضرورياً حتى لمناوئيه وأعدائه من أهل السنة، أو إن شئت صار هناك توجس من الشيعة عموماً.
(* إلفات نظر: إنه مما يميز الإيرانيين عن غيرهم بنظر العرب هو وصفهم بـ "العجم" وهو وصف يطلق عليهم حصراً دون باقي الأعاجم، مع أن "العجم" تعني "غير العرب"، فلماذا يبقى الفرنسي فرنسياً والصيني صينياً والتركي تركياً ولكن الإيراني أعجمياً؟ إنه يقول للعربي بشكل غير مباشر: الفرنسي فرنسي وكفى، الصيني صيني وكفى، التركي تركي وكفى، ولكن الإيراني "إيراني + غير عربي" وعليه فهناك "جدار قومي بينك وبينه". والعجيب أن هذا تجده عند الشيعة كما عند السنة، ما يؤكد ما قلته سابقاً بخصوص امتداد المشاعر القومية العنصرية إلى الشيعي أيضاً، إما كمؤشر على العامل المذهبي الذي تلبس بلباس قومي أو على العامل القومي بالأصل في الاحتكاك بين العرب والفرس في القرون الإسلامية الأولى، وهو ما تؤكده النزعة العروبية عند الشيعة من جانب، والرد العروبي المضاد للفرس أحياناً من جانب آخر. فأما الأول فمن مثاله قول الشريف الرضي:
فإن ترَ فينا صولةً عجرفيةً ** فقد عرّقت فينا الجدود الأعاربُ
فهو يفتخر بالزهو العربي القديم.
وأما الثاني فمثاله ما جرى في بلاط الوزير الشيعي الصاحب بن عباد إذ دخل عليه فارسي فتكلم بزهو الفرس والنيل من العرب، فغضب الصاحب ونادى على بديع الزمان الهمداني وأمره، والأفضل أن أوردها كما رواها الهمداني ففيها لطائف:
كنت عند الصاحب كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد يوماً، وقد دخل عليه شاعر من شعراء العجم، فأنشده قصيدةً يفضل فيها قومه على العرب، وهي:
غنينا بالطبول عن الطلول ... وعن عنسٍ عذافرةٍ ذمول
وأذهلني عقار عن عقارٍ ... ففي است أم القضاة مع العذول
فلست بتاركٍ إيوان كسرى ... لتوضح أو لحومل فالدخول
وضبٍ بالفلا ساعٍ وذئبٍ ... بها يعوي وليث وسط غيل
يسلون السيوف لرأس ضب ... حراشاً بالغداة والأصيل
إذا ذبحوا فذلك يوم عيدٍ ... وإن نحروا ففي عرسٍ جليل
أما لو لم يكن للفرس إلا ... نجار الصاحب القرم النبيل
لكان لهم بذلك خير فخرٍ ... وجيلهم بذلك خير جيل
فلما وصل إلى هذا الموضع من إنشاده، قال له الصاحب: قدك. ثم اشرأب ينظر إلى الزوايا وأهل المجلس - وكنت جالساً في زاوية من البهو فلم يرني - فقال أين أبو الفضل؟ فقمت وقبلت الأرض وقلت: أمرك! قال: أجب عن ثلاثتك، قلت: وما هي؟ قال: أدبك، ونسبك، ومذهبك. فأقبلت على الشاعر فقلت: لا فسحة للقول ولا راحة للطبع إلا السرد كما تسمع. ثم أنشأت أقول:
أراك على شفا خطرٍ مهول ... بما أودعت لفظك من فضول
تريد على مكارمنا دليلا ... متى احتاج النهار إلى دليل!
ألسنا الضاربين جزى عليكم ... وإن الجزي أولى بالذليل
متى قرع المنابر فارسي ... متى عرف الأغر من الحجول!
متى عرفت وأنت بها زعيم ... أكف الفرس أعراف الخيول!
فخرت بملء ماضغتيك هجراً ... على قحطان والبيت الأصيل
وتفخر أن مأكولا ولبساً ... وذلك فخر ربات الحجول
ففاخرهن في خد أسيلٍ ... وفرعٍ في مفارقها رسيل
وأمجد من أبيك إذا تزيا ... عراة كالليوث على الخيول
قال: فلما أتممت إنشادي التفت إليه الصاحب، وقال له: كيف رأيت؟ قال: لو سمعت به ما صدقت. قال: فإذن جائزتك جوازك؛ إن رأيتك بعدها ضربت عنقك. ثم قال: لا أرى أحداً يفضل العجم على العرب إلا وفيه عرق من المجوسية ينزع إليها.
إنتهى
لاحظوا: كيف أن الهمداني يسمي الإيراني "من العجم"، وكيف أن الصاحب بن عباد يأمر بالدفاع عن "مذهبه" أي التشيع لأهل البيت (ع) فيربطه بالعروبة، وكيف أنه يرى أن من يفضل الفرس على العرب فإن المجوسية لا تزال تؤثر فيه...)
وأما الشيعي العراقي – فقد تحول من مواطن درجة ثانية إلى مواطن ملاحق مشكوك في أمره تماماً مهما فعل ومهما قدم من أدلة على أرض الواقع على ولائه للحكم، والتي وصلت إلى درجة أن حسن العامري عضو مجلس قيادة الثورة أعلى سلطة في البلاد (العضو الشيعي الوحيد من 15 عضواً) يقف يصلي متكتفاً كأهل السنة خشية الاختلاف مع مذهب القائد الضرورة، فكيف بحال باقي البعثيين، وكيف بحال المواطن العادي الذي ليس عنده ما يحميه؟ (يقول الفريق أول وفيق السامرائي أيام كان مدير الاستخبارات العسكرية برتبة لواء / رتبة لواء أعلى رتبة يمكن أن يصل إليها سامرائي في ذلك العهد، كما أن رتبة عميد آخر ما يمكن أن يصل إليه الشيعي، وعقيد آخر ما يمكن أن يصل إليه مسيحي / أن المجرم صدام اتصل به يوماً وسأله عن عدد الضباط الشيعة في المديرية، فلما أجابه أنهم ثلاثة، إنزعج صدام وسأله عن وجودهم وعملهم، فقال وفيق أنه يحتاجهم للترجمة، عندها وافق صدام على بقائهم، ولكن بشرط أن يدقق آخرون ترجمتهم!).
صار الشيعي تطارده تهمة الأعجمية المرتبطة بالمذهب الشيعي، وصارت تهمة الخمينية جاهزة يمكن أن ترسله إلى القبر.
وأما التبعية الإيرانية فكان تسفيرهم يجري على مراحل بحيث أن بعضهم كان لا يزال موجوداً في العراق عند مغادرتي في نيسان 1982 (منهم زميل في العمل كان من التبعية والمصيبة أنه كان متزوجاً من ابنة خالته إيرانية الجنسية ممن سفروا سنة 1970 ثم زارت العراق بعد التوقيع على معاهدة 75 فتزوجها ورزقا ولداً، وخرجت وكانت إقامتها ستنتهي في شهر آب – الله أعلم ماذا حل بهم / أما إذا كان الشخص سنياً فلم يكن يسفر، كما حصل مع أحد أقرب الأصدقاء والناس لي، فقد أودع التوقيف لمدة شهر، ولكن استطاع المرحوم والده – وكانت له منزلة أكاديمية رفيعة جداً – إخراجه من السجن، وصرت أمازحه بعدها أن الذي أخرجك هو كون أمك أمريكية!)، وهذا يعني بقاء هذا القرار الجائر مسلطاً على رؤوس الألوف كل لحظة من حياتهم.
ولكي يستمر وضع الملح على الجرح، أو الإهانة إلى الجرح كما يقول الانكليز، فإن غالبية الجنود والمراتب (جندي أول، نائب عريف، عريف، رأس عرفاء) وضباط الصف ممن يحارب على الجبهات، وكنتيجة غالبية القتلى والأسرى والمفقودين والمشوهين والمعوقين من الحرب، من الشيعة، وكل ما حصلوا عليه هو ما يقوله البعض اليوم أن الدليل على أن العراقيين مخلصون لوطنهم وليس لإيران أن شيعة العراق قاتلوا إيران ثماني سنوات! (فيا لها من شهادة فخرية عظيمة عادلة: لا يكفي جهادك ضد الغزو الانكليزي سنة 1914، ولا ثورتك ضد الانكليز بعد سنوات والتي أدت إلى إقامة الدولة العراقية الحديثة، ولا قبولك بملك مستورد من غير مذهبك، ولا خدمتك في القطاعات كلها المدنية والعسكرية، وكل ذلك مع قبولك البقاء في المقعد الخلفي، لتكفي دليلاً على إخلاصك ووطنيتك، فكان يجب أن تقاتل شيعة آخرين من أجل تثبيت حكم طائفي ضدك ينكل بك وبأبناء مذهبك من مراجع الدين وحتى أصغر إنسان سناً وقدراً لكي يعطوك شهادة في الوطنية – والتي هي – وأقسم بالله العظيم – لا تخرج إذا خرجت مع القناعة الكاملة بها، فهؤلاء "أهل تقية"!)
وهكذا، وكما حصل مع أخيه السني العراقي، فإن ما حصل من تغيرات بعد ثورة إيران والحرب العراقية الإيرانية أثر بشكل مباشر على "العقدة الشيعية" تجاه إيران، فصارت:
(1) أشد ترسخاً، لأن العلاقة الشيعية العراقية بإيران فتحت جميع ملفاتها – الأصول والمرجعيات والعقائد، فصار الشيعي العراقي كالعصفور المحصور في قفص هذه العلاقة الملتبسة
(2) أكثر امتداداً إلى العقائد الشيعية بشكل صريح وهو ما يجعل الشيعي بين مطرقة الالتزام بهذه العقائد لضمان الآخرة وسندان الهجوم عليها من الحكم الذي لا حدود لقسوته وبطشه، ما يعني العيش المستمر في حالة من التناقضات
(3) ألصق بالمشاعر نتيجة الأذى اللاحق من فقدان الشباب بين قتيل وأسير ومفقود، وهو ما يجعل الشيعي يعيش التناقض في نظرته لإيران أيضاً: فمن جانب هو يعلم أن المعتدي هو الجانب العراقي، ومن جانب آخر لا يقبل استمرار إيران في رفض إيقاف القتال (وهذا في حالة معظم الشيعة فيما أظن) خصوصاً وأن حياته متأثرة بدرجة كبيرة جداً، سواء من الضحايا الذين يسقطون كل يوم في الجبهات أو من القمع الدائم لشباب الشيعة ومرجعيتهم الدينية أو من الآثار الاقتصادية العامة التي أصابتهم كما أصابت غيرهم
(4) أوسع إلى الخوف من أي انتصار للإيرانيين أو دخولهم الأراضي العراقية، وذلك لأن تداعيات ذلك مجهولة – وهذه النقطة ليست كما هي عند أهل السنة الذين يعادون الإيرانيين أصلاً فكيف بعد الحرب، ولكنها فاعلة عند الشيعة أيضاً لأنهم – وببساطة – عراقيون لا يقبلون بالمحتل الأجنبي، الأمر الذي أثبتوه في جميع أدوارهم ومنها الآن بالذات
(5) رغبة عند بعض الشيعة في انتصار الإيرانيين، خصوصاً من يعيش في إيران ويقاتل معهم على أساس البرنامج الإسلامي المشترك والعدو المشترك، أي على العكس من المذكورين في 4 أعلاه – وهذا تغيير كبير في "العقدة الشيعية" من إيران عند هؤلاء لأنه تحول من التفاعل السلبي مع "العقدة السنية" بالصبر والسكوت والتحمل أو الدفاع الخجول إلى التفاعل الإيجابي بمحاولة استثمار فرصة الحرب لتغيير الواقع الظالم للدولة العراقية الطائفية دون أدنى شك.
يتبع