بقلم: كمال غبريال
لا شك أن أهم فعاليات أحزاب المعارضة المصرية، إن لم يكن فعاليتها الوحيدة، هو قراراتها الهزلية بمقاطعة الانتخابات. . ورغم أن المقاطعة مبدئياً لأي أمر موقف سلبي، إلا أنها يمكن أن تكون فعلاً إيجابياً مؤثراً، في حالة توافر شروط وظروف معينة، وبغير توافر هذه الشروط، لا يكون فعل المقاطعة أكثر من هروب إلى الأمام كما يقولون، وربما أيضاً لا يعد موقفاً على الإطلاق، وإنما مجرد إعلان دعائي لا يعني شيئاً لأي أحد. . فمتى تكون المقاطعة للانتخابات فعلاً مؤثراً، ومتى تكون من قبيل لغو القول وهزال المواقف؟!
نعرف جميعاً شعباً وحكاماً وصفوة أن داء الحياة السياسية المصرية المستعصي، هو سلبية الجماهير وعزوفها عن المشاركة السياسية بكل مظاهرها، تلك السلبية التي نعزوها إلى عصور القهر وتكميم الأفواه وتهميش الجماهير في المرحلة الناصرية، والتي تم فيها ترسيخ فكرة النائب الثوري الأوحد، الذي يعرف ما تريده الجماهير وتحتاجه، بدون أن تكلف تلك الجماهير نفسها عناء التعبير عما تريد، وبالتالي كل المطلوب من الشعب أن يلتزم الصمت وحدود الأدب، لكي يتفرغ القائد الملهم للعمل على تحقيق آمال الجماهير، وفق الوحي الثوري الذي يتنزل عليه. . وبعد العصر الثوري الناصري عاصر المصريون عصر "كبير العائلة"، الذي أتاح له التعبير عن نفسه، بشرط واحد بسيط، وهو الالتزام بقانون العيب الذي تعلمناه في قرانا، وينص على ألا نتفوه بما يغضب كبير العائلة، وإلا حق علينا نزول عقاب، يتدرج من قصف الأقلام إلى تكميم الأفواه إلى الإيداع في معتقل من معتقلات عصر الانفتاح والتعددية!!
الآن، وقد صار هامش الحرية المتاح أوسع بكثير من أن يملأه الإنسان ورجل الشارع المصري، تأبى الصفوة الهزيلة الكسولة أن تنظر إلى حقائق الواقع السياسي المصري، والذي يصرخ بأن الخطوة الأولى والحتمية لتطوير الحالة السياسية المصرية، هو العمل من خلال الجماهير، لتخليصها من سلبيتها ومخاوفها وهواجسها من مغبة المشاركة السياسية، لتقوم بنفسها بملء الهامش المتاح حالياً من الحرية، لتتنتقل بعد ذلك إلى مرحلة توسيعه وتعميقه.
تعجز الصفوة فيما لو افترضنا فيها الإخلاص، عن إدراك أن مثالب الانتخابات المصرية وعوار نتائجها لا يرجع في مرحلتنا هذه إلى القمع البوليسي وإغلاق فتحات صناديق الانتخاب في وجه بطاقات الجماهير الانتخابية، وإنما يرجع إلى غياب هذه الجماهير، والذي تترتب عليه نتيجتان لا تقل أحدهما خطورة عن الأخرى. . أولهما إتاحة الفرصة لأفراد جهاز الدولة البيروقراطي الذي يكون عماد لجان الانتخابات، للقيام بدلاً عن الناخبين بملء بطاقاتهم وفقاً للتوجيهات العليا، سواء جاءت تلك التوجيهات من مصادر عليا بالفعل، أو جاءت من أصحاب السطوة والنفوذ المحليين، الذين لا يعدم أن يكونوا من التيارات المعادية للحكم وحزبه الوطني. . النتيجة الثانية وربما الأكثر خطورة وتشويهاً لنتائج الانتخابات المصرية، هي أن نسبة المشاركة الهزيلة التي تدور حول نسبة 20% من إجمالي من لهم حق التصويت، ناهيك عن تدني هذه النسبة، إذا ما نسبت لعدد المفروض أن يمارسوا حق التصويت وليس لهم بطاقات انتخابية، هذا الوضع يجعل نتائج الانتخابات لا تعبر عن الرأي العام المصري حقيقة، حيث يتيح لجماعة ضئيلة منظمة مثل جماعة الإخوان المحظورة أن تكثف جهودها، لتكتسح الانتخابات، لتأتي النتائج وكأن الشعب المصري يزكي هؤلاء، في حين أن الحقيقة هي أن غياب الشعب المصري عن الانتخابات، هو الذي أتاح لهذه الفئة القليلة التفوق على هامش بسيط وغير منظم من الجماهير.
علاج مهزلة الانتخابات المصرية يا سادة يا كرام إذن ليس بالوقوف أمام صخرة المطالبة بالإشراف القضائي الكامل على الانتخابات، فلو افترضنا أن هذه الإشراف هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من عملية تسديد الأصوات الغائبة لصالح جهة ما، فلن نتخلص بهذا الإشراف من الداء الأكثر وبالاً، وهو تضاعف الحجم الحقيقي لجماعة محدودة القوة لكنها فعالة، لتبدو وكأنها المعبر عن مجموع الشعب المصري!!
أعرف شخصياً نائباً برلمانياً قديراً وعتيداً دخل الإعادة في الانتخابات البرلمانية الماضية أمام مرشح الحزب الوطني، وحاول أصدقاؤه قبيل الإعادة الاستعانة بالإخوان المسلمين لتأييده، لكنهم تهربوا كعادتهم، وتركوه لسلبية جماهير دائرته، أو تركوه لنتائج خطابه المفارق بالفعل لمتطلبات الجماهير، رغم الشعارات الرنانة التي يتشدق بها هو والحزب الذي يمثله!!. . ترى لو وقف تنظيم الإخوان بكتائبه الفاعلة خلف هذا المناضل اليساري الشهير، هل كان سيلقى ما لقى من هزيمة نكراء؟!!
الأمر ليس بأي حال أمر تزوير تمارسه الحكومة، فالتركيز على التزوير من قبل المعارضة ليس أكثر من تنطع يفرضه العجز عن التواصل مع الجماهير، والقعود عن النزول إليها، سواء لضعف الهمة، أو لافتقاد الرؤى الكفيلة بجذب انتباه الناس، واستنهاضهم من سباتهم وركودهم، ليشاركوا بفاعلية، من خلال هامش حرية نعتبره نحن دعاة التحرر ضيقاً مقارنة بالمتاح للدول الحرة، لكنه حالياً أوسع من أن يحتله الشعب المصري، الذي اعتاد على التواكل والانقياد في سائر أمور حياته!!
المفترض أن أحزاب المعارضة حين تنتهج المقاطعة للانتخابات بهدف الضغط على النظام لتوفير ظروف أفضل تضمن نزاهة الانتخابات، أنها تراهن على حرمان العملية الانتخابية من أمرين، أولهما هو مشاركة جماهير تلك الأحزاب في الانتخابات، فتنخفض نسبة المشاركة الجماهيرية، مما يضعف من شرعية هذه الانتخابات، والثاني حرمان العملية الانتخابية من مشاركة مرشحين بارزين لهم ثقلهم في الساحة السياسية المصرية، مما يؤثر على قوة المنافسة وجديتها. . لكننا في حالتنا المصرية هذه، حيث نسبة التصويت متدنية بالأساس، وحيث أحزابنا عديمة الجماهير، كما تفتقد الأحزاب لأي شخصيات ذات ثقل جماهيري، بل ولا تكاد الجماهير تسمع عن هذه الأحزاب من الأساس، وينحصر تواجدها على وسائل الإعلام التي يتحدث فيها النخبة بعضهم لبعض، فإن الحديث عن قرارات بمقاطعة الانتخابات تصدرها بعض الأحزاب، تكون من قبيل اللهو والإعلان الصريح عن العجز ليس أكثر ولا أقل!!
مصر- الإسكندرية