كمال زاخر
حاصرتنا التسريبات والأخبار الخارجة من محيط الكاتدرائية المرقصية بالعباسية، قبيل انعقاد مجمع الأساقفة (المجمع المقدس) والتى كانت مرتبة لخلق مناخ ضاغط على سعى التنوير والإصلاح المنشود والذى بدت إرهاصاته فى تحركات قداسة البابا الحثيثة فى عدة محاور، فى الداخل والخارج، ومازال فى القصيدة أبيات لم تقرض.
لم يكن ممكناً أن نتعامل مع هذا المشهد بغير ما يستحقه من اهتمام، خاصة أن أحداً من داخل الأروقة ممن يديرون ماكينة التسريب ويحسبون عند الميديا بتنوعاتها كان ظاهراً، بل قد دفعوا بمريديهم وأدواتهم لتولى هذه المهمة.
لم يكن مهماً لدينا كتيار علمانى حين تكون (2006) إلا أن يكون صوتا صارخا فى برية الكنيسة، فى مواجهة حراك "التدجين" الذى امتطى قيماً نقية لقولبة الرؤى وحجب القراءة النقدية الموضوعية، وروج لمقولة "ابن الطاعة تحل عليه البركة" فى إصرار ومثابرة حتى استقر فى الذهنية القبطية خاصة عند الشباب أنها واحدة من آيات الإنجيل، وما هى كذلك.
كنا نرقب المشهد من لحظة قدوم البابا تواضروس، وبادرنا بالسعى للقائه، فى زيارة خاطفة للتهنئة باختياره لموقعه السامى فى رحاب دير الأنبا بيشوى ببرية وادى النطرون، إحدى أهم مناطق التجمعات الرهبانية التاريخية فى العالم، وقدمنا له كتاب "العلمانيون والكنيسة" (2009) الذى اقترب من الإشكاليات الكنسية والحراك التجديدى على مدى قرن من الزمان، متضمناً تحليلاً تاريخياً لأبرز الحركات القبطية داخل الكنيسة وتشابكاتها مع الواقع، مدارس الأحد، الرهبنة، جماعة الأمة القبطية، المجلس الملى، انتخاب البابا عبر الوثائق، المحاكمات الكنسية، التحرك العلمانى، أقباط المهجر، وأرفقنا به ملفاً تناول القضايا التى نراها فى مقدمة قائمة المطروح على مكتب قداسته. وعدنا إلى صفوف العلمانيين، ولم نقترب من دائرة اتخاذ القرار ولم نسع الى موقع هنا أو هناك، فنحن مجموعة بحثية وفقط، ومازلنا عند نفس النقطة وعلى نفس المسافة، حتى لا نكون جزءا من تشابكات لا محل لها.
كان من الطبيعى اتساقاً مع منهجنا أن نبادر بطرح توجساتنا ومخاوفنا وقد تجمعت سحبها فى افق الكنيسة، مع اجتماع المجمع المقدس (17 ـ 20 نوفمبر)، مؤمنين أن المكاشفة هى الآلية التى ترفع الغطاء عما يدور خلف الأبواب المغلقة، حتى لو كان الأمر فى فلك الشائعات، أو جس النبض، أو محاصرة سعى التجديد، أو تحصين مواقع ومراكز استقرت عبر عقود، فكان البيان الذى خرج عنا "الكنيسة بين الانطلاق والتفكيك"، قلنا فيه قراءتنا للمشهد كما تجمع لدينا، وحسبناه خطوة استباقية تنير المناطق المعتمة، لنسير فى النور مادام لدينا نور، وأتذكر هنا بعض من كلمات قداسة البابا شنودة الثالث، كتبها فى الإصدار الأول لمجلة الكرازة ـ حين كان أسقفاً للتعليم ـ فى عددى فبراير ويونيو 1965، واحتلت تصدير كتاب "العلمانيون والكنيسة":
الله يأمـرنا أحيـاناً أن نتـكلم ، فيـقول فى ســفر أرمياء النبى:
"والذى معه كلمتى، فليتكلم بكلمتى بالحـق "(أر 13: 28) .
وقد قال الرب لبولس الرسول :لا تخـف بل تكلم ولا تسـكت
(أع 18: 9و10) .
وقد أرسـل الله عبده يـوحنا المعمدان صـوتاً يصــرخ فى البرية:
"أعدوا طريق الرب، اصنعوا سـبله مسـتقيمة" (مر1: 3) .
وقد تكلم يوحنا المعمدان كلاماً شديداً جداً، ولكن الكلام كان من الله.
وأمر الله موسى أن يتكلم بكلمة الحق، فلما طلب إعفاءه من هذه المهمة
معتذراً بأنه ليس صـاحب كلام، أصـر الله على أمره وقال لموسـى:
"إذهب، وأنا أكون مع فمك وأٌعلمك ما تتكلم به "(خر12:4).
إن الله لا يكلم النـاس مباشـرة ، إنما عـن طـريق أولاده .
هو يريـدنا أن نعلن وصاياه للناس . إن الله لم يذهب بنفسه إلى هيرودس
ليقول له "لا يحل لك" إنما وصلت كلمة الله إلى هيرودس عن طريق يوحنا.
والرب قد قـال لتلاميذه: " وتكونون لى شـهوداً " ( أع 1 : 8 )
ولم يقصـد التلاميذ فقط، وإنما هـو على مدى الأجيال. كما يقول عنه
بولس الرسـول: " لم يتـرك نفسـه بلا شـاهد" ( أع 14: 7 ).
ولمـا احتج بعض الفريسـيين على تلاميـذه لشـهادتهم له ، أجـاب :
"إن سـكت هـؤلاء فالحجـارة تصـرخ " ( لو 19 : 40 ) .
إن صَمَتنا عن الشهادة للحق ندان على صمتُنا
الذى يســير دائمـاً فى طـريق الحــق
لا يسـتاء مطلقـاً من كلمــة الحـــق
أن تُقـال وأن تُكتـب بـل يُشـجعهـا !!.
انتهت كلمات قداسة البابا الراحل وبقيت دلالاتها، وبقى أن بيان التيار العلمانى لم يكن يسعى لإثارة المخاوف وترويع المتابعين، كما ذهب وتصور البعض، وإنما الى مخاطبة الكتلة المحايدة داخل المجمع فى لحظة يصبح فيها الحياد خطيئة، وكنا نبعث برسالة دعم للجناح التنويرى الذى تتجمع بلوراته حثيثاً داخله، ونستثير نذور الخدمة التى تحتل قلب الآباء.
وقد تحقق ما سعينا إليه ووصلت الرسالة الى مستحقيها على اختلاف مواقعهم، وخرج المجمع أكثر تماسكاً، فى معان حملتها كلمة قداسة البابا تواضروس فى الجلسة العامة للمجمع، ويبقى أن تتواصل خطى التجديد بثقة مدركة للدعم الحقيقى من شعب الكنيسة، لتحقيق آمال الرعية الظهير الحقيقى والصلب لتوجه التنوير، حتى تتحقق الكنيسة الواحدة الجامعة الرسولية.
نقلآ عن البوابة نيوز