بقلم: ليديا يؤانس
تقول ما أنا قلت! يقول لك بس أنا ما فهمتش!
تقول أنا كان قصدي كذا! يقول لك بس أنا ما فهمتش قصدك!
اللغة أداة للتعبير عن الفكر، ويمكن التعبير عنها بالكلمات المسموعة أو المقروءة.
اللغة أيضاً قد تأخذ شكلاً فلسفياً وسلوكياً أعمق من مجرد النطق بكلمات أو كتابتها فنسمع مثلاً عن لغة السياسة، لغة الحب، لغة الجسد، لغة العيون، لغة التشبيه، لغة الكناية، اللغة الرمزية، وهكذا.
واحد بلديتنا مستوطن في كاليفورنيا بأمريكا من حوالي 40 سنة، يعشق السياحة وزار حوالي 17 دولة علي مستوي العالم، أخذ الطائرة وعلي أمستردام عدل، بعد أن شجعه أصدقاؤه الهولنديين المصريين بأن تكون رحلته هذه السنة لبلدهم الجميلة، ويقضي معهم بعض الوقت حيث أنه لم يراهم منذ أن هاجر لأمريكا.
الرحلة كانت طويلة ومرهقة حوالي 11 ساعة ونصف، نزل في مطار أمستردام، دايخ زي الكتكوت اللي ليسه خارج من البيضه ومش عارف يروح شمال ولا يمين بالرغم من أنه متعود علي السفر، ولكن الرحلة أرهقته جداً، قال لنفسه ياواد يعني كان لازم تتحذلق وتقول لأصحابك لا ما تتعبوش نفسيكُم وتيجوا لي المطار، ده أنا جن مصور حتبصوا تلاقوني بخبط عليكُم، المهم أنت ياواد اللي جبته لنفسك وأتصرف بقي يا حلو وما تضحكش الهولنديين عليك.
لحسن حظه أن محطة القطار قريبة جداً من المطار، أخذ تذكرة القطار وركب ووضع الشنط بجانبه، وقال أستريح شوية لغاية ما نوصل، وليسه حيغمض عينه للإسترخاء وإلا المفتش واقف أمامه، أعطي له التذكره وفجأة المفتش إستشاط غضبأً وحقر من شأنه أمام الركاب، أنت تذكرتك درجة ثانية وانت جالس في درجة أولي!
وما كان من المفتش إلا أنه بدء يجُر في شنط صاحبنا ليضعها في الطرقة بين عربتي القطار وهو يبرطم بلغة غير مفهومه، وينظر بإحتقار وإزدراء لصاحبنا الحرامي اللي جاي يغش ويسرق هولندا!
المفتش كان علي وشك أن يشد صاحبنا من قفاه مثل الصرصار ويحدفه من القطار هو وشنطه لولا ستر ربنا.
صاحبنا بدلاً من الإسترخاء توترت أعصابه، وعند الوصول لمحطته نزل يجر الشنط وفجأة وجد المفتش أمامه مرة أخري، فذهب إليه وحاول أن يشرح له القصة، أنا ليسه واصل بلدكم من ساعتين واشتريت تذكرة للقطار، أعطوني تذكرة ولم يسألوني عن الدرجة الأولي أو الثانية وأنا ركبت ولم أقرأ أولي ولا ثانية، المفتش قلبه زي الحجر ومازال يتفرس في وجهه بتوجس وصاحبنا يحاول يشرح والمفتش مش بيعلق وساكت، وأخيراً المفتش ابتسم إبتسامة صفراء وتركه ومشي.
فيما بعد صاحبنا فهم ما حدث معه في القطار، وهو أن كل محاولاته بالتحدث مع المفتش باءت بالفشل لأن الغالبية العظمي من الهولنديين لا يتكلمون إلا اللغة الهولندية بإستثناء قلة منهم يعرفون لغات أخري مثل الإنجليزيه والفرنسية، وبالتالي لغة صاحبنا كانت غير مفهومه للمفتش وبالتأكيد لغة المفتش كانت غير مفهومه لصاحبنا!
الناس تتكلم وكل واحد عايزك تفهم لغته هوّ، وتتبني فكره هوّ، ولو لغتك مختلفة عن لغته يبقي إنت الغلط وهو الصح! طيب إيه مقياس الصح والغلط! ومين اللي غلط ومين اللي صح!
لا أقصد المعني الحرفي للغة، بمعني أن هذه لغة إنجليزية وهذه عربية وهذه فرنسية وهذه هولندية، ولكن الذي أقصده أنه حتي علي مستوي اللغة الواحدة ممكن اللي يسمع اللغة يفهمها بمعني آخر، أو يحورها لمعني آخر، ليس في ذلك مشكلة لأن أفكارنا مختلفة ومفاهيمنا قد تختلف أيضاً.
في الفترة الأخيرة التي تمر بها مصر تجسدت هذه الفكرة وخاصة في لغة السياسة، بمعني أن الكل يتكلم، ولكن البعض يفهم ما قلته علي حسب مفهومه هوّ وليس بالضرورة أن يكون هذا ما تقصده أنت بالفعل، لدرجة أن فيه ناس بدأوا يخافوا يتكلموا لئلا يتصنفوا تحت تصنيفات وأيدولجيات لا تعبر عن فكرهم الحقيقي.
علي سبيل المثال لو شخص تحدث مثلاً عن فترة حسني مبارك يقول لك آه ده من الفلول، لو واحد إنتقض بعض الأوضاع الحالية بالرغم من تأييدة الكامل للنظام يتم وصفه بالخيانة، لو شخص قال أنا حر وأؤمن بالحرية يتفهم علي أنه إنسان منفلت لا يريد أن يخضع للتقاليد والعادات، وهلم جراً!
والأغرب من ذلك وخاصة بالنسبة للأشخاص الذين لهم دور في السياسة أو الكتاب أو الإعلاميين، قد تواجههم هذه المشكلة، فتجد من لا يفهمون لغتهم قد يصنفونهم خطأ، وقد تصل لوصفهم بالخيانة، فمثلاً لو شاهدوا أن هذا الشخص كان حاضراً إجتماع أو موجوداً في صورة مع بعض من يصنفونهم الآن علي أنهم غير وطنيين، يبدأون في التشكيك في وطنية الشخص ويصفونه بأنه إنسان مخادع، وذلك فقط لأنه كان موجوداً في صورة أو إجتماع أو مؤتمر!
هذا شئ لا يصدقه عقل عاقل! ده حتي الإنسان ممكن أفكاره ولغته تتغير لإن ما فيش حاجة ثابتة حتي الكون والطبيعة ليست ثابتة فما بالك بالإنسان ذو العقل المفكر.
من أيام قرأنا عن قصة إنتحار "زينب مهدي" فتاة رقيقة جميلة وتتمتع بشخصية قوية وفكر ناضج في تقديري أعلي من سنها، فلقد شاهدت لها مقطع فيديو وهي تتكلم بثقة وتشرح مواضيع أكبر من سنها، وشاهدت أيضاً تأثير كلامها علي من يجلسون حولها ويستمعون لها وتبدو علي ملامحهم تعبيرات الإستياء لأن ما تتحدث به لا يروقهم أو لا يفهمونه أو لأنه لا يتفق مع أفكارهم!
وهذا ما تداوله أصدقائها علي الإنترنيت، بأنها إنضمت لجماعة الإخوان ثم إنفصلت عنهم وهذا بالتأكيد لا يرضى الجماعه!
قالوا أنها خلعت الحجاب وهذا بالتأكيد لا يرضي المتزمتين دينياً!
وأيضاً بدأت تتكلم عن مواضيع أخري من وجهه نطرهم إلحاد، وبالتالي تم تصنيفها علي أنها كافره، وهنا مربط الفرس كافره يعني يحلل دمها، أنا شخصياً أشك في أن هذه الفتاة وبهذه الشخصية وبهذه العقلية تقدم علي الإنتحار!
يقول بعض أصدقاءها أنهم قاطعوها وفرضوا عليها عقاب نفسي بعزلتها عنهم وخصوصاً بعد خلع الحجاب، ونظراً للغة الجديدة التي تتحدث بها، إعتقاداً منهم بأنها سوف تتراجع عن أفكارها ومفاهيمها بسبب عقابهم لها!
أنا شخصياً أشك في أنها إنهارت نفسياً وانتحرت، ولكن الذي أنا متأكده منه أن لغتها كانت مش مفهومه بالنسبة لهم، فكان لابد أن تكون هي الغلط وهم الصح! مع إن العكس كان ممكن يكون ان هيّ الصح وهمّ الغلط!
الناس ممكن تحكم علي إنسان من لغته الغير مفهومه بالنسبة لهم ويؤدي ذلك إلي موت أو قتل إنسان برئ، ولنفترض أن هذا الشخص تفكيره غلط من وجهة نظرهم، مش يمكن في يوم من الأيام تفكيره يتغير!
الناس ممكن تحكم علي إنسان من لغته الغير مفهومه بالنسبة لهم ويؤدي ذلك إلي تدمير مستقبله وحياته والنيل من سمعته وأحياناً سجنه، مع ان هذا الشخص ممكن يكون في يوم من الأيام إنساناً ذو شأن عظيم، ولقد قرأنا الكثير عن الفلاسفة والعباقرة والتي يذكرهم التاريخ بأن لغتهم كانت غير مفهومه بالنسبة للآخرين في ذلك الوقت.
ياريت ترحموا الناس من أفكاركم ونفوسكم وذواتكم المريضة، بان لغتكم هي الصح، وأفكاركم هي الصح، ودينكم هو الصح! أتركوا الآخرين يمارسون حقهم الآدمي، بأن تكون لهم أفكارهم وديانتهم ولغتهم الغير مفهومة بالنسبة لكم، فهي علي الأقل مفهومة بالنسبة لهم الآن وربما تفهمون أنتم فيما بعد!