CET 08:41:13 - 13/05/2010

مقالات مختارة

بقلم: أسامه أنور عكاشه

عطشان يا صبايا‏..‏ عطشان يامصريين‏..‏ عطشان والنيل في بلادكم‏...‏ متعكر مليان طين‏...‏ ‏...‏ كان بيرم منفيا في باريس بعد أن غضب عليه الملك فؤاد وزمرته حين تجرأ وركبه شيطان شعره الجميل فأطلق لسانه منشدا‏..‏

ولما عدمنا في مصر الملوك جابوك الانجليز يافؤاد قعدوك
ثم لم يرعو ويسكت عن فضائح الشائعات التي صاحبت زواج فؤاد ونازلي فطاوع شيطانه مرة أخري ليقول القصيدة التي أصبح مطلعها مثلا شعبيا وحكمة متداولة‏:‏
العطفة من قبل النظام مفتوحة
والفرخة من قبل الفرح مدبوحة
نفي الشاعر اللمض طويل اللسان عظيم الموهبة‏..‏ واستقر به المقام في فرنسا لسنوات عاني خلالها من مشاعر الحنين للوطن أكثر مما عاني من شظف العيش وضيق ذات اليد‏..‏ فقد كان بيرم مصريا حتي النخاع رغم كل الهمسات والتقولات التي هدفت للنيل منه والاساءة إليه بالغمز من قناة أصله التونسي‏!‏ وفي عنفوان مرضه بالحنين للوطن‏ThehomeSickness..‏ أطلق العنان لعواطف المحب الساخط‏..‏نعم فعواطف الولع بالمحبوب كلما اشتدت كان وجهها الآخر حاملا لانفعالات الغضب من الحبيب والسخط عليه انطلاقا من تمني كمال الحبيب وإكتماله وبعده عن نواقص الضعف‏..‏ وهكذا راح بيرم يبث مصر أشواقه وحبه معجونين بثورة غضبته عليها لاستكانتها واستسلام أهلها‏..‏

والآن‏...‏ ما الذي أسخط أمير قوافي العامية المصرية علي النيل للدرجة التي نلحظها في البيتين اللذين تصدرا هذا المقال؟ بالطبع لم تكن المسألة خاصة بالعطش الفيزيقي أو البيولوجي‏...‏ فلم تكن هناك أزمة مياه شرب في فرنسا‏...‏ حيث تجري أنهار السين واللوار وتنفجر ينابيع المياه في فيش وإيفيان وفيتيل وغيرها‏..‏ رغم اعلان بيرم في نفس القصيدة أن مياه الدنيا لا ترويه ما دام محروما من مياه النيل‏..‏ لكنه كان يرمي سهمه بعيدا إلي العمق‏..‏ إلي البؤرة التي تسببت في نفيه وغربته وفي ابقاء المصريين راسغين في أغلال الخنوع والخضوع للحاكم الفرعون أنا ربكم الأعلي وهذه الأنهار تجري من تحتي‏..‏ الحاكم المتحكم في النهر والبشر والأرض والغلة‏..‏ في لقمة العيش وشربة الماء‏..‏ بأمره يفيض النيل ويغدق حابي علي الوادي وبأمره يتلكأ النهر ويتعثر ويتأخر فيضانه فيجوع الرعايا وتحصد المسغبة أرواحهم‏!‏ ويرحل الفراعين وينتهي زمنهم وتدول دولهم‏..‏ ولكنهم يخلفون لعنتهم بصحة علي مسار الأزمنة التالية‏..‏ لعنة الحاكم الاله مموها في كل حقبة بقناع يلهي عن حقيقته‏..‏ فهو المقوقس قائد الجند في حقبة الرومان‏...‏ وهو الوالي في حقبة الخلافة والبك كبير المماليك في زمنهم ثم هو الخديو والملك تختلف الأقنعة وتبقي تحتها سلطة الاستبداد والقهر‏..‏ ويثرثر في أذنيك صاحبك عالم الجغرافيا السياسية الجيوبوليتيك قائلا إن الأمر طبيعي فمصر مجتمع نهر‏..‏ ومجتمع النهر يحتاج إلي سلطة مركزية قوية تتعامل مع نزوات النهر وفيضاناته أو شحه وتتحكم في مياهه لتوزعها بالعدل علي الفلاحين ـ وهم الغالبية العظمي في الشعب المصري ـ وتفرض بالتالي رقابتها وتضع القيود التي تراها لازمة لمصلحة الجميع وهو نوع من أنواع العقد السياسي بل هو اكثر الانواع صرامة وجبروتا ففي العقد السياسي الطبيعي يتنازل المواطن عن جزء من حريته وحقوقه السياسية للسلطة المركزية مقابل أن تؤمنه هذه السلطة وتحميه وتضمن له أن يعيش في مجتمع آمن سعيد‏!!

لكن العقد في مجتمع النهر يفرض علي المواطن أن يتنازل عن كل حرياته وكل حقوقه الأساسية وكل مفردات الارادة والاختيار إلي النظام الحاكم‏..‏ والمقابل هنا ينكل بالسيد المواطن لضمان سلامة وأمن النظام وهكذا يتحول مجتمع النهر إلي مجتمع القهر‏..‏ ولأن النهر وديع مستأنس لايثور ولايتمرد‏..‏ فقد انطبع الناس في واديه ودلتاه بطبعه‏..‏ ولايغير في الأمر أن يشقشق مثقف هنا أو متحذلق هناك أو تدير النخب المعزولة حوارات بيزنطية حول التغيير والثورة والمطالبة بالاصلاح ولو عن طريق العصيان المدني‏(‏ عالم أبقاق صحيح‏)‏ فالجسم الأساسي طريح المصطبة يتثاءب وهو لايدري أن نهره القديم الخالد الذي غني له محمود حسن اسماعيل شابت علي أرض الليالي و ضيعت عمرها السنين‏)‏ وداعبه شاعر البلاط الخديو واصفا إياه بالنجاشي الحليوة الأسمر هذا النهر يجري بمعزل عنه غاضب عليه نافيا عن نفسه تهم السادة الجغرافيين الذين يريدون الصاق تهمة القهر بوجوده‏.

إذن فقد كان بيرم غاضبا من العكارة والطين وكان ساخطا علي استخدام النهر حجة لقهر الناس وكان يطالبهم بتطهيره من العكارة والطين‏..‏ ويذكرهم بأن السين واللوار لم يتعكرا لأن الفرنسيين أبو الانصياع لحكم الجغرافيا وثاروا علي الملك الشمس لويس الرابع عشر وعلي آل البوربون جميعا وأطلقوا صيحة الحرية والاخاء والمساواة لتطوف بالعالم كله تغيره وتدفع به إلي عصر التنوير والنهضة‏!‏
أما أن يطول بنا الصبر إلي ما لانهاية‏..‏ ونغض الطرف عن كل مظاهر الدمار والانهيار التي عمت الديار في الوادي والدلتا وشواطيء البحر ونستعبط علي روحنا مرددين‏:‏ حانعمل إيه؟ ماحنا مجتمع نهر‏!‏ فتلك بعينها هي عكارة الاستجداء والاستسلام التي أري أن بيرم قد عناها وهو يجأر بالصراخ شاكيا عطشان يا صبايا‏..‏ عطشان يا مصريين‏..‏ ونحن نصرخ معك يا عم بيرم فالعطش يحرق حلوقنا‏..‏ ويجفف الدماء في عروقنا‏..‏ ونعترف لك بأننا نحن المصريين ـ مسئولون قبل حكومتنا المركزية ووزاراتها المعنية وإدارتها البيروقراطية عن عطش أهل البرلس وأزمة مياه الشرب في محافظات البلد وكل نواتج الفساد والاهمال وفقدان الكفاءة‏..

نحن مسئولون لأننا تركنا الثعالب تخترق كل جناب الكرم وتلتهمه أمام أعيننا ونحن نكتفي بالفرجة معللين النفس بأن مصر محمية‏...‏ وماحدش بيبات فيها من غير عشا أو كما قال المتبني‏:‏
وقد نامت نواطير مصر عن ثعالبها
وقد بشمن ولم تفن العناقيد‏...‏
للمتنبي وبيرم مزيد السلام‏...‏ وعلي كل المصريين السلام‏.‏

نقلا عن الاهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع