بقلم : نسيم مجلي
وفى مقدمة كتابه يتابع الدكتور أنورلوقا نتائج هذه العلاقة التى بدأت بالتعاون بين الطهطاوى، وخير الدين ثم أخذت شكل التأثير الفكرى عند المفكرين والمصلحين التونسيين الآخرين . إنها عودة من خلال الأدب المقارن كما يقول المؤلف:

" لقد برزت حركة الإصلاح فى تونس من خلفية تاريخية أشبه بتاريخ مصر فى القرن التاسع عشر. فكل من البلدين كان يسعى للاستقلال عن سلطة الدولة العثمانية. ولكنه يقع عند بداية الثمانينات تحت سيطرة احتلال اجنبى متربص. وكان غزو فرنسا لتونس موازيا لغزو بريطانيا لمصر. بعد نزاع سافر بين هاتين القوتين العظميين إذ ذاك من ناحية وتذرعهما التصدى للتوسع الاستعمارى الألمانى من ناحية أخرى، مما يطرح إشكالية العصر الحديث بثورته الصناعية فى الغرب وتداخل آثارها الاقتصادية والسياسية فى الشرق مع الانحطاط التركى والنهضة العربية "

وفى هذا الإطار شاع الربط بين الطهطاوى وخير الدين التونسى ( 1822-1890 ) عند مؤرخى العالم العربى الحديث. إنهما يتشاطران بالفعل كثيراً من الأفكار التقدمية التى يقتبسانها من النمط الغربى ويؤصلانها فى تعاليم الإسلام. وظهر التأثير المتبادل بينهما – فقد استشهد خير الدين برفاعة فى كتابه " أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك " كما استشهد رفاعة بخير الدين فى كتابه" مناهج الألباب "

أما الجنرال حسين (المتوفى 1898 ) وله مكانته بين المصلحين التونسيين، فقد تخرج فى المدرسة الحربية . وهو كخير الدين ورستم من المماليك الذين جئء بهم فى عهد احمد باى  تونس قبل منع الرقيق سنة 1846. ومن مواقفه المأثورة أنه أنسحب سنة 1863 من رئاسة أول مجلس بلدى بالعاصمة ومن رئاسة مجلس الجنايات احتجاجاً  على قرار الباى بزيادة المجبى واستنزاف البلاد التونسية. و لاشك أنه تأثر برفاعة الطهطاوى حين تولى وزارة المعارف وطالب بإدخال مواد " التعليم العام " فى معهد الزيتونة كى لا تقتصر التعليم على النحو والفقه . وكان  الطهطاوى من بين الذين انتقدوا خير الدين لتخاذله، وهو على رأس الحكومة فى إعادة النظام الدستورى لتونس كما نادى بذلك فى " أقوم المسالك "

كذلك سينقده المصلح التونسى الصديق أحمد بن أبى الضياف "( 1802-1874 ) " صاحب كتاب "إتحاف أهل الزمان بأخبار تونس وعهد الأمان " والذى يشرح فيه كيف تقوم أفضل نظم الحكم عنده ألاوهو " الملك المقيد بقانون " وقد صدر القانون التونسى الأساسى باسم " عهد الأمان " فى سبتمبر سنة 1857. ويقال إن أحمد بن أبى الضياف قد أنجز صياغته النهائية فى ليلة واحدة . وفيه نقرأ.

" تأكيد الأمان لساير رعيتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة فى أبدانهم المكرمة ، واموالهم المحرمة ، وأعراضهم المحترمة . التسوية بين المسلم وغيره من سكان الإيالة فى استحقاقه الإنصاف ، لأن استحقاقه لذلك بوصف الإنسانية لا بغيره من الأوصاف . والعدل فى الأرض هو الميزان المستوى، يؤخذ به للمحق من المبطل وللضعيف من القوى "

وينبهنا المؤلف إلى أن كتاب " الاتحاف " سابق على " أقوم المسالك " ويشهد باستقلال فكرى عن زعامة خير الدين للتيار الاصلاحى بتونس. كما نتعرف فى كثير من عباراته وفى مصطلحه الرئيسى " الملك المقيد بالقانون " على ألفاظ رفاعة الطهطاوى. فتصور احمد بن أبى الضياف لمبادئء النهضة فى تونس اقرب إلى تصور الطهطاوى كما يربط بينهما انتماء طبيعى يميزهما معاً عن خير الدين. فقد نبت رفاعة وابن أبى الضياف على أرض من الوطن العربى ضربت فيها جذور كل من أسرتيهما . بعكس خير الدين الذى جئء به مملوكاً من تركيا إلى قصر الباى ويجهل الجميع مكان وزمان ولادته .

وقد لمس ابن أبى الضياف كيف يفسد المماليك ما دعا اليه من مبادئء المساواة والتمثيل النيابى، فهم يسخرون الإصلاحات الدستورية ، ليتقاسموا فيما بينهم النفوذ الذى يقتطعه القانون من سلطة الباى ، ولا يتركون للتونسى سوى وظائف الكتبة والخدمات الدينية من قضاء وإفتاء وإمامة. ومؤرخو النهضة يمجدون ابن أبى الضياف لأنه حقق فيما حقق استخدام اللغة العربية بدلاً من التركية فى المراسلات الرسمية، كما ينوهون بمبادرة رفاعة عندما تولى رئاسة " الوقائع المصرية " سنة 1841 فأحل فيها العربية محل التركية .
   
وينتهى الدكتور أنور لوقا إلى التمييز بين رجل الدولة ورجل العلم فى موكب المصلحين. ففى ضوء السفر إلى الخارج ، يرى أن الطهطاوى سافر " لطلب العلم " فاستقر خمس سنوات فى مركز حضارى ، للاستيعاب والتعمق الفكرى ، وجعل يقتطع من مرتبه الضئيل أجر معلم اضافى، ويسهر رغم تحذير الطبيب له من إرهاق عينيه بالقراءة ليلا. وأما خير الدين فقد أكثر من التنقل المترف إلى عواصم أوربا ومن التردد على الملوك والوزراء والأثرياء لأغراض سياسية أو مالية أو قضائية ومهمات تجاوزت فيها مصالح مولاه ومنافعه الشخصية ، وسيعود رفاعة معلماً ومترجما ومؤلفاً ويظل – رغم ترغيب الباشا محمد على وترهيبه – إمام التربية حتى آخر حياته التى ختمها بنشر كتاب " المرشد الأمين للبنات والبنين " ضمن تراث زاخر بالتقاليد والقيم الانسانية الراقية التى حملها العديد من تلاميذه المخلصين .

وعلى التعليم يركز الإمام محمد عبده ويرى أن التربية القومية هى وسيلة الإصلاح السياسى واعداد جيل قادر على القيام بما يعهد اليه من بعث الروح فى المجتمع العربى. وقد عرفت تونس شخصية محمد عبده مباشرة وأصغى مصلحوها إليه فى زيارته الأولى 1884. وفى تونس توفر محمد عبده. على إلقاء " ذلك الدرس الحافل العظيم الشأن فى "العلم والتعليم " ونشرته فوراً جريدة " الحاضرة "
هكذا تواصل سريان تيار النهضة من مصر إلى تونس على محور " التعليم "

وقد فطن الشيخ محمد عبده إلى هذا الأمر بعد تجربته السياسية مع جمال الدين الأفغانى، وصارح أصدقاءه التونسيين بهذه الحكمة التى اهتدى أليها .
وكما يقول أنور لوقا :
" وإذا كان رفاعة الطهطاوى قد استحق لقب المعلم الأول فى نهضتنا الحديثة فقد ردد أصداء دعوته للعلم والتعليم – من بيروت إلى تونس والجزائر – صوت خليفته الإمام الشيخ محمد عبده " ثم يضيف :
ويستطيع المثقفون التونسيون اليوم أن يتمثلوا عودة رفاعة الطهطاوى إليهم فى وجه مألوف لديهم هو وجه طه حسين الذى  حضرآخر دروس محمد عبده، واستمع الى نصيحة ، عبد العزيز جاويش التونسى الذى حثه على السفر إلى فرنسا . وهناك خصص  طه حسين لابن خلدون – أشهر علماء تونس – أطروحة الدكتوراه التى قدمها إلى السربون .وسيزور طه حسين تونس سنة 1957 ليشهد أول انطلاقه للتعليم الجامعى بها – فيحييه قوم أيدوه منذ معركة الشعر الجاهلى، وعاونوه فى نشر التراث المغربى و الأندلسى وآثروا أعماله بكثير من مقالاتهم وأبحاثهم .

وهنا يتوقف أنور لوقا ليخبرنا أن صوت الطهطاوى لم يكن بهذا الوضوح فى جيله، فقد غابت أعمال الطهطاوى عن مدارسنا فى الثلاثينيات والأربعينيات. ورغم نشأته فى جنوب مصر فلم يفطن إلى مكانة رفاعة إلا أثناء دراسته بجامعة القاهرة حين اجتذبته بضع محاضرات عن الرحالة فالتفت إلى كتاب " تخليص الإبريز فى تلخيص باريز " فالتهمة واتخذه موضوعاً لرسالة الماجستير تحت إشراف الدكتور طه حسين 1949 .

وفى العام التالى ظهر كتاب أحمد أحمد بدوى " رفاعة الطهطاوى بك " وكان أقرب إلى الجرد والتصنيف المكتبى: فكان تجميعاً لبيانات مفيدة وكأنه أداة توضع فى يد الباحث المبتدئء. ثم اهتدى إلى بضع مقالات حافزة سبق أن نشرها أحمد الصادق حسين فى " السياسة الأسبوعية " سنة 1927 ، وأحمد أمين فى " الثقافة " سنة 1943 دون أن تترك أصداء .

يعلق أنور لوقا بأن " الأدباء هم ضمير الأمة ومن أجل هذا فإنه يهيب بمؤرخى الفكر فى العالم العربى المعاصر أن يستوفوا هذا الإصلاح ليسجلوا منعرجات الرأى وأطوار الوعى فى مجتمعنا العربى على اختلاف بيئاته. فالطهطاوى" أصبح عند أصحاب الدراسات الدولية – أى خارج حدود العالم العربى – وثيقة عالمية لاتصال الثقافة الإنسانية وتفاعلها . وأصبح عندنا علماً مرجعياً بل علامة تتجاوز الواقع إلى الرمز الأسطورى فى الشعر والسيرة الشعبية والمسرح مع الفنان نعمان عاشور .

" وفى غمرة المد الجاهلى الذى زحف خلال السنوات الأخيرة على أطراف العالم العربى، وأشاع الذعر، محاولاً بالعنف الغاشم تجريد الإنسان من نعمة العقل التى ميزه بها الخالق العزيز الحكيم، عاد إلى الآذان صوت رفاعة الطهطاوى الذى عرف كيف يواجه أزمة عصرنا بالتبصير والأصالة فنشرت القاهرة طبعة جديدة من " تلخيص الإبريز " ضمن سلسلة كتب " التنوير " وجاورت رحلة الطهطاوى كتاب على عبد الرازق " الإسلام وأصول الحكم " وكلاهما يدحض – كما دحض ابن أبى الضياف فى تونس – ذريعة الذين يتمسحون بالإسلام لتبرير ما عزموا عليه بدوافع غير دينية .

ثم يرى الكاتب أن من أبرز ما يدلنا على عودة رفاعة الينا ظهور كتابين مرموقين هما " أبناء رفاعة ، والثقافة و الحرية " للروائى بهاء طاهر ، وأما الكتاب الثانى فهو الذى يعده للنشر الدكتور عبد المنعم تليمه أستاذ الأدب العربى بجامعة القاهرة عن تجربته فى اليابان .. توخى فيه أن يطابق منهجا وغرضا وعنوانا رحلة الطهطاوى الشهيرة فسماه " تلخيص البيان فى تلخيص اليابان " و لا يندرج هذان الكتابان فى صلب برنامج النهضة كما تصوره ورسمه الطهطاوى فى بدء الصحوة حين كان موعده مع التاريخ ، بل إنها حدث وجودى وكشف عفوى عن مصداقية العقل العربى، وشهادة من مختتمى القرن العشرين بامتداد حياة الرائد الأمين فى حياتهم .

وفى ختام هذه المقدمة يحدثنا الدكتور أنور لوقا عن صورة الغلاف التى أبدعها فى مدريد الفنان لويس فلسطين (1922- 1992 ) ويقول إن " معنى التجديد الذى يكمن فى اسم رفاعة الطهطاوى هو الذى أوحى صورة الغلاف " والفنان لويس فلسطين كان العضو العربى الوحيد فى الفيدرالية الدولية لفنانى الميدالية بباريس وكان اسمه يرتبط بالتراث العربى الأندلسى. فعكف طوال غربته عن الوطن – أربعين سنة على استيعاب أعمال وأخبار كل علم من أعلام الحضارة الأندلسية واستخلاص ما يميز عطاءه الفكرى مجسماَ- الصلصال ثم الجص ثم البرونز – فسجل مع الوجه الذى نسيناه رسالة إنسانية باقية. قوة التعبير فى خطوط قليلة صائبة مسددة إلى الجوهر . هكذا أسفر أسلوب لويس فلسطين عن وجوه ابن حزم وابن رشد والمعتمد بن عباد وابن بسام وزرياب وابن باجة وابن زمرك وابن زيدون وولادة بنت المستكفى ،ثم ابن عبدون وابن عمار .. كل منهم يمثل حقبة وبيئة أو معرفة أو مصيراً خاصاً يدل عليها الباحث بالملبس وقسمات الوجه الناطق مع رمز – منقوش فى ظهر الميدالية – يقتبسه من آثار العلم الذى استحضره."

أخرج لويس فلسطين ميدالية طه حسين سنة 1983 عندما احتفل المعهد المصرى للدراسات الإسلامية فى مدريد بذكرى أستاذه العاشرة . وأما ميدالية الطهطاوى فلم تمهله المنية لإنجازها والمنشور على غلاف الكتاب هو تخطيطه فيها الوجه المألوف ننشرها على غلاف الكتاب ممهورة بتوقيعه كهدية نزجيها لذكرى الفنان الراحل " وما ظهورها فى صدر هذه الفصول التى أحبها وألهمته إلا استكمالا لمعنى عودة رفاعة الطهطاوى – عودة إلى شبابه ، وعلى حفاوة الشوق فى عيون أمته "       

لقد أطلت فى عرض هذا الجزء من الكتاب لأننى أشعر أنه المدخل الصحيح الآن لمعنى التواصل والتجديد الذى تجسده سيرة رفاعة الطهطاوى .. ولم يبق لدى سوى القليل لأقوله ثم لأترك القارئء فى صحبة مؤلف الكتاب لكى يصحبه فى رحلة من رحلات الإمتاع والمؤانسة يسائله ويروى له صفحات هذه السيرة العطرة بأسلوب ممتع جذاب نحس معه حقا أننا فى صحبة الطهطاوى فى رحلة من رحلات التغرب والاستكشاف ، نعيش معه لحظة بلحظة نواجه الحيرة أحيانا ، والانبهار أحياناً أخرى ..... ونتعرض لصدمة التعرف التى تجعلنا نفكر بعمق فى دلالة الاختلاف بيننا وبين الأوربيين وغيرهم من الشعوب الناهضة لعلنا نهتدى إلى أسبابها الحقيقة ، فنستكمل مع الدكتور أنور لوقا رحلة الاستقصاء والاستنارة . إنها حقا مغامرة حية فى ملحمة الاستغراب والاستشراق بطلها الرئيسى هو رفاعة الطهطاوى . 

لقراءة الجزء الأول أنقر هنا