بقلم : مفيد فوزى
لست طبيباً نفسياً يسترخى المريض أمامه وأدعوه للبوح بلا رقيب، ولست طبيب قولون ملتهب أعالج بالمسكنات! ما أنا إلا كاتب يحمل فوق ظهره أكثر من نصف قرن من التجارب، ولعلى تقاسمت مع الحزن أكثر من نصيبى من الفرح! عشت مئات اللحظات القلقة كأنها مسامير فى رأسى وذقت طعم الغليان الداخلى وهى حالة تنتاب الإنسان حين يريد أن يصرخ فلا يستطيع، فيمضغ حزنه وحيرته، نعم
احترقت بنار المشاعر المتحجرة وصادفت أحياء هم فى الواقع أموات وكسرت القلل وراء صداقات مهترئة، وقابلت بشراً على هيئة ثعابين، وحين يتكلمون تصلنى أصواتهم كأنها فحيح الأفاعى، وراوغنى رجال ونساء لهم صفات الذئاب والثعالب. كنت أصدق كل ما يقال لى حتى اكتشفت الزيف، كنت أسمع الآخرين ببراءة حتى ولو بدوت متجهماً، لكن براءة الآخر– رجلاً أو امرأة – كانت مضروبة وفقدت عذريتها وأصحابها أوغاد، توقفت متأخراً عن «استحلابى» بأساليب شتى وشدتنى عيون بريئة وثبت لى أن حدقاتها منسوجة من الخداع
وبعد الثورة الينايرية، خرج علينا (مسجلين خطر) ليسوا فقط من السجون، بل من الشقوق والحارات وعرفنا جرائم الخطف، خطف الأطفال وخطف الأوطان، عرفنا الانقسامات والعصابات وما عاد للوجوه ملامح، كل شىء مزور، الصوت والصورة والقصد والنية! أعاد إلى ذهنى حكايات أرسين لوبين والمفتش تيل وإن كان أرسين لوبين فى «الحضانة» إلى جانب (القوم السفلة) وهم بشر متحجر منزوع المشاعر فى زمن مضطرب، افتقدت (أدهم الشرقاوى) فى الحس الشعبى وكان مضرب الأمثال فى الشهامة
فى لحظة ما احتدمت نار داخلية فى صدرى حين الاعتداء على القيم والأصول والثوابت وكان (عهد ضلال) تأخون فيه كل شىء حتى تراب المدينة، حتى جاء فجر، خرجت فيه الملايين بزئير الحناجر تغنى (طلع الفجر علينا).
فى تلك السنوات المحذوفة من عمر الزمن التزمت البيت وأسست قاعدة عامة لنفسى تقول كما يقول المثل الإنجليزى (بيتك هو قلعتك) ويظل السؤال الأهم: كيف نتعامل مع بشر لا ترتفع قامتهم عن الأرض كثيراً. وكيف تصد ذلك العداء السافر أحياناً والمستتر أحياناً أخرى، كيف تنزع الأقنعة عن الوجوه المدربة على ضحك أصفر وابتسامات لزجة وعيون زجاجية لا تفصح عن شيء وحدقات لا تستقر من فرط البهتان.
كيف نواجه الصوت المشروخ بفعل الكذب والتمويه. كيف نواجه زمناً يستخدم فيه الشباب كلمة (فشخ) للتعبير عن الجدعنة، ولست ممن يتباكون على الماضى وإن كنت أبكى على زمن كان البنى آدم آدميا بحق!.
لقد كانت تجارب العمر (قنديلى) ومرشدى وذلك الفنار المضىء الذى يهدى سفينتى وسط أمواج البحار المتلاطمة، كنت أعلم أن تساؤلات الإنسان أشبه بصلوات استسقاء لينزل مطر الحقيقة ويبدد الغيم الأسود، وكانت التساؤلات لها دوى داخل الصدور، فى زمن الضلال يصبح بلاء الإنسان من اللسان، ولا يخلو الظهر من مكان لطعنه، فى ذلك الزمن كنا نقوم بسلخ جلد الأحياء ولا ندرى ما نفعله بوعى أو دون وعى على ملعب الدهر، كنا – باختصار – كما قال الشاعر سميح القاسم (كأغنية بلا مطلع، كنهر ضيع المنبع)، وتعلمت الكثير مما يطفئ نار القلب والصدر الداخلية.
١- تعلمت كيف أخلق حولى (عالما من السكون) وسط ضوضاء الحياة وصخبها هو الأقرب إلى ممارسة اليوجا الموصلة للخروج من القشرة الأرضية، فلا إمام إلا العقل.
٢- تعلمت كيف أتجه إلى (الصلاة) لأنها تزرع إيماناً حقيقياً داخل النفس والإيمان (يقزم) أعتى المشاكل، ويقينى أن عين (الرب) فاحصة كاشفة ولا تسهو أو تنام.
٣- تعلمت كيف أدرب نفسى فى الحياة اليومية على (التبرير) للآخر فربما دفعته الظروف أو لعبت برأسه الظنون أو قادته الشكوك إلى السوء، التبرير فيه قدر من (السماحة) لا يقدر عليها إلا النفوس الرفيعة.
٤- تعلمت ثقافة (الآخر) فالناس مختلفون متنوعون، لا أحد يشبه الآخر مثل بصمة الإصبع، هذه الثقافة تتيح لى إدراك إن كل إنسان له مخ يديره وقلب يحركه وأنه (مختلف) عنى، ومن الطبيعى أن يكون هناك اختلاف فهذه سنة الوجود وسمة البشرية وقارة الجينات!
٥- تعلمت أن (الاستغناء) قوة. قوة عقلية وقوة روحية، ولاتدخل الإنسان فى متاهات التزلف أو النفاق من أجل مكاسب حياتية مؤقتة وزائلة وقد يدفع الإنسان ثمنها من صحته وعافيته وهو أكبر رأسمال يملكه.
٦- تعلمت أن هناك صدمات مختلفة من نوعية أخرى غير مألوفة تصيب بعض البشر مثل (صدمة المال) أو (صدمة الشهرة) وكلاهما يفقد الإنسان توازنه وقدرته على إدارة نفسه بما يمكن أن يسمى انضباط الذات خصوصاً إذا جاءت هذه الشهرة والمال بعد حرمان، هنا يحدث (اختلال) فى الموازين.
٧- تعلمت أنه لا شىء ينتشل الإنسان من تفاهات الحياة وجنونها سوى (المعرفة) أن يسلم الإنسان نفسه لأعز الأصدقاء الذى لا يشكو إذا سئمته، أو حل بك الملل وتململت وسط صفحاته، وهو الكتاب الورقى لا المرئى، فشاشة النت تستهلكك بالحكايات والنميمة وإشاعات (موت فنانين) تحبهم وقد يصدر لك النت طاقة سلبية هى الأسوأ.
٨- تعلمت أن (التأمل) هو أن تأخذ مسافة ومساحة من حدث ما وتراه من الخارج لتراه أوضح وأعمق، ففى التأمل (تصحيح) و(تصويب) ومراجعة، ومن لا يتأمل هو محبوس داخل إطار ضيق ولا يرى سوى موقع قدميه.
٩- تعلمت فى لحظة السكون (استدعاء أفراح) صغيرة حتى لو كانت بطعم الشجن، لتطرد الحيرة وتطارد دخان الضيق وتبرد نارك!
١٠- تعلمت كيف أختار وأدقق فى اختيار (الأذن) الجديرة ببوحى فأخفف كثيراً من أحمال الطريق الثقيلة ثم أخرج إلى الطبيعة فهى الراعى الرسمى للحيارى والمتعبين ولديها القدرة على امتصاص نيكوتين الزمن!
إن الإنسان مولع «بالنجاح» وقد يحقق هذا النجاح بسبل مشروعة وربما غير مشروعة، وعلى قدر حجم هذا النجاح، يظل صاحبه ناجحاً إلى حين اكتشاف سقوط بمذاق النجاح، وإن القدرة على الصعود محدودة بحجم الموهبة إن وجدت! والإنسان مولع «بالمقارنة» بالآخرين وكثيرون يرفضون فكرة الـ٢٤ قيراطاً التى منحها الله لعباده.
إن المقارنات جالبة للتعاسة والنار الداخلية، والإنسان مولع (بالتفرد) كل حسب نشأته وظروفه والقيم التى درج عليها، وفى سبيل هذا التفرد، يطغى الإنسان ويرفض الآخر ليبقى هو على التل وحده، الإنسان مولع (بالتباهى بما لديه) من مال أو جاه أو عقار أو ذهب أو سيارات أو حفنة نساء كطابور المداحين والكورس يصافحونه كل لحظة بدقات الدفوف.
كل هذا قد يخفى العيوب والفشل بغية حفظ ماء الوجه أمام مجتمع (فراز)، على أن الحقيقة كما لخصها محمود درويش هى (الإنسان طويل القامة قصير الإقامة).
إننا نصادف فى الحياة (انكسارات) كثيرة فى العلاقات الإنسانية أسبابها الطمع الطماع والطموح الشارد، والمكسور غاضبوما أسوا الغضب حين يجتاح إنساناً سقط من فوق جواده إن لسانه لا يكف عن ازدراء كل شيء فى الآخر وتحقيره أمام ذويه، وغالباً ما ينفد الرصيد من الثقة ورحيق السنين، إنها نار داخلية.
أردت أن أضع أمامكم تصوراً ورؤية خاصة من قلب تجربة عملية ولم أبخل فيها أبداً من إعلاء صوت ضعفى أو أنينى، فالكاتب ليس من طينة أخرى والشيب هو (إناء مملوء تجارب) والتجربة ليست للادخار بل للاستفادة من هذا الرصيد، حاولت أن أدلف إلى عالمى لأطفئ النار الداخلية التى تشتعل فى النفس حين تعلق المشانق لكلمة حق أو إنصاف، فالباطل يطل برأسه ليجد لنفسه مكاناً فى الصف، والإنسان الحر ثابت المبادئ – وإن كره الكارهون – يشقى فى الحياة، أردت – باجتهاد – أن أبحث عن شفرة لصد الغليان الذى يحدث داخل صدرك وقد تخفيه عن العيون وربما تريد أن تصرخ لكن المجتمع رسم لنا آليات قبول الواقع حتى إشعار آخر.
أنا أشعر أننا نعيش (فرحة) حقيقية، ينغصها (غدر جماعة) بحثت عن شفرة تجلب السار وتدفع عنك المضار.
نقلآ عن المصري اليوم