بقلم: ليديا يؤانس
في رحلة قصيرة للجنوب الفرنسي وقفت مبهورة أمام إمارة موناكو الفرنسية، الدولة ذات سيادة علي شاطئ الريفيرا الفرنسية، صغيرة المساحة (0.7) ميل مربع، ولكنها تعد البلد الأكثر كثافة في العالم حيث عدد سكانها حوالي (35936) منذ سنة 2011.
موناكو تعتبر من أغني دول العالم حيث مستوي المعيشة للفرد الواحد حوالي (151.630) يورو، ومستوي البطالة (0%).
موناكو إمارة يحكمها شكل من أشكال الحكم الملكي الدستوري، لغتها الرسمية الفرنسية بينما يتكلم الموناكويون الأصليون لهجة منحدرة من لهجة جنوة الإنجليزية والإيطالية، معظم سكانها من أغنياء ومشاهير العالم وبالرغم من ذلك فالديانة الرسمية هي المسيحية الكاثوليكية ولكن حرية الأديان مضمونة ضمن بنود الدستور (19 نوفمبر) الذي يطلق عليه "عيد الأمير" وهو نفس اليوم الوطني لموناكو.
ما بهرني وجذب إنتباهي جمالها الفريد من نوعه، فطبيعتها الجبلية وموقعها علي شاطئ البحر الأبيض المتوسط ومحازاتها الريفيرا الفرنسية والحدود الإيطالية القريبة منها جعل طقسها مريحا مبهجاً، المباني كل منها عبارة عن وحدة فنية رائعة مختلفة عن الأخري بتصميماتها التي قد تنحدر إلى أزمنة ماضية أو حاضرة.
ما لفت نظري الهدوء النفسي الذي يعتلي وجوه الناس مع الإبتسامات والضحكات التي تشعرك بأن هؤلاء ليسوا من كوكبنا الذين يعانون في كل أوجه الحياة!
سرحت بأفكاري وتساءلت هل السبب في ذلك الفلوس والمستوي المعيشي المرتفع؟
أوقفت صديقتي الفرنسية المصرية الأصل السيارة لكي ننزل لإستكمال السياحة وإلتقاط بعض الصور الفوتوغرافية، هممت بالخروج من السيارة حاملة شنطة يدي فقالت لي، أتركي الشنطة وسأترك أيضاً شبابيك السيارة مفتوحة، هنا الكاميرات في كل مكان حتي الشوارع هنا كلها مؤمنة ومراقبة .. لا تخافي!
وقفنا أمام كنيسة صغيرة وقبل أن ندخل الكنيسة شعرت بنفحات روحية غريبة وسألت نفسي مرة أخري، هل سبب سعادة أهل المدينة الفلوس أم وجود هذه الكنيسة بالذات بالرغم من وجود العديد من الكنائس الكبيرة الضخمة والفخمة؟
قالت صديقتي، هل تعرفين أن أهل موناكو يعيشون ببركة القديسة ديفوت، وتقريباً هي شفيعة هذه المدينة ولها العديد من المعجزات في هذه المدينة وغيرها!
واستكملت حديثها قائلة: في يوم 27 يناير من كل عام يحضر أمير المدينة وكبار رجال الدولة والبابا والشعب، ويحضرون رفات (جسد) القديسة، و أيضاً يحضرون مركب ويقومون بحرقه أمام هذه الكنيسة (كنيسة القديسة ديفوت) وبعد إحتراق المركب بالكامل يقوم رجال الإطفاء بإخماد المتبقي من الحريق، وهنا يتسارع الناس في الحصول علي مسمار من المركب المحترقة للإحتفاظ به إعتقاداً منهم بأن هذا المسمار سيجلب لهم الحظ والبركة!
بعد رجوعي من رحلتي وجدتني أبحث عن هذه القديسة شفيعة هذه البلدة الجميلة التي بهرتني بكل ما فيها وهل هناك علاقة بين القديسة ديفوت وما تنعم به هذه البلدة من رخاء!
في بداية القرن الرابع وفي كورسيكا (التي كانت مقاطعة رومانية) في ذلك الوقت أمر الحاكم الروماني دقلديانوس بإضطهاد المسيحيين.
كان من ضمن المسيحيين المضطهدين فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً جميلة جداً مؤمنة وورعة من كورسيكا رفضت عبادة الأوثان، سجنوها وعذبوها عذابات شديدة جداً، ثم استشهدت متمسكة بإيمانها المسيحي.
هذه الفتاة عرفت باسم "St. Devote or St. Devota" ربما هذا هو اسمها الحيقي أو اسم أطلقوه عليها كصفه لشدة ورعها وتكريس حياتها لإيمانها المسيحي.
بعد موتها أمر حاكم المدينة بأن يحرق جسدها ولكن المسيحيين أخفوا جسدها، ثم وضعوه علي متن سفينة متجهة إلي أفريقيا، أملاً في أن يحظي جسدها الطاهر بمكان مسيحي أو كنيسة يليق بدفنها.
منذ الساعات الأولي من عبور السفينة، قامت عاصفة شديدة علي السفينة، ثم طارت حمامة خرجت من فم القديسة، حولت إتجاه السفينة إلي ميناء هرقل بمدينة موناكو بدلاً من أفريقيا.
إصطدمت السفينة بصخور الميناء فتحطمت وغرق طاقم السفينة، ولكن تم العثور علي رفات القديسة بواسطة بعض الصيادين، إلا أن لصاً أتي بمركب وسرق رفات القديسة بغرض التفاوض علي جسدها للحصول علي المال، باغتته مجموعة من الصيادين وأعاقوه عن الهرب بجسد القديسه وقبضوا عليه وقاموا بحرق مركب اللص علي شاطئ موناكو كنوع من التضحية التكفيريه عن رفات القديسة، ثم قاموا بوضع جسد القديسة في كنيسة القديس سانت جورج، وفي وقت لاحق تم بناء كنيسة صغيرة مخصصة لها، وزرعوا الورود حول الكنيسة تكريماً لها والغريب أن هذه الزهور تتفتح فقط في يوم عيدها 27 يناير، ويتم الإحتفال بعيدها كل عام بحرق مركب أمام كنيستها التي نقف أمامها اليوم.
علي مدي العصور حدثت معجزات عديدة حيوية لإمارة موناكو بسبب القديسة ديفوت:
في عام 1506 هاجمت جنوة إمارة موناكو وأستمر الحصار لمدة 6 أشهر فصلي الموناكيون "Monegasque" من أجل شفاعة القديسة ديفوت، فظهرت القديسة ملفوفة بالسحاب فروعت الأعداء وفروا هاربين.
في عام 1581 كان للقديسة ديفوت الفضل في إستقلال موناكو، وذلك عندما تعرضت البلد للهجوم من فرنسا وكورسيكا، فظهرت سانت ديفوت علي الجدران، ووبخت المهاجمين وخاصة الكورسيكيين التي هي أيضاً شفيعة لهم، والذين أيضاً يقدسون رفاتها منذ فترة طويلة.
عندما تهددت موناكو بالغزو الإسلامي تم نقل رفات القديسة إلي دير سيمياز لكن أعيدت إلي موناكو بطريقة أعظم بواسطة الأمير أنطونيو.
هذا بالإضافة إلي العديد من المعجزات للأشخاص الذين يطلبون شفاعة القديسة ديفوت وكل حسب إعتقاده وحسب إيمانه!
يقول الكتاب المقدس "لذلك نحن أيضاً إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا لنطرح ثقل الخطية المحيطة بنا بسهولة" (عبرانيين 1:12).
القديسة ديفوت وكل القديسين وكل من أرضوا الرب وتمسكوا بالإيمان به، وتألموا وأضطهدوا وأستشهدوا حتي لا ينكروا إيمانهم هؤلاء هم السحابة التي تظللنا وتفيض علينا من البركات الإلهية حيث صلواتهم المرفوعة من أجل الضعفاء والخطاة والمقهورين والمتألمين.
حينما يحيط بنا الضعف وتهاجمنا الخطية والتجارب، يجب أن نجاهد رافعين أعيننا إلي الرب الذي يقوينا، وفي نفس الوقت متطلعين إلي سحابة الشهود المحيطة بنا فنتمثل بهم في جهادهم وشهادتهم للحق الإلهي.
في المجئ الثاني للسيد المسيح سيأتي علي السحاب وكأنه يأتي جالساً في قديسيه، فلنحيا كسحاب يطلب كل ما هو فوق، أي السماويات أي الله بكل قداسته لأنه يقول كونوا قديسين كما أنا قدوس، دون تجاهل للأرضيات لأننا مازلنا نحيا في الجسد.
المسيح يعلم ضعفاتنا وهو غافر خطايانا كلها، ولكن ما لا يغفره هو أن يترك الإنسان إيمانه سواء بسبب المال أو الشهوات أو حتي الإضطهادات.
القديسة ديفوت كانت بالنسبة لموناكو السحابة التي تحولت إلي مطر لتفيض بالبركات علي موناكو، ولذا استحقت محبة وتمسك شعب موناكو بها، واستحقت أن تكون شفيعة هذه البلدة الجميلة.