بقلم يوسف سيدهم
إن كنا نتطلع إلي إصلاح التعليم كمحور أساسي من محاور خريطة مصر الجديدة,فهناك عناصر متعددة يجري الحديث عنها مثل الكتب والمناهج والمباني المدرسية,ولعل مؤخرا تم التنبه إلي حتمية إعداد المدرس نفسه والذي بدونه لاينجح أي من العناصر السابقة,فالمعلم سيظل دوما هو الوسيط بين نظام التعليم وعقل التلميذ ومهما كان تصميم نظام التعليم حديثا أو متطورا يمكن للمعلم إنجاحه أو إفشاله اعتمادا علي ما يفعله به داخل الفصل.
الزمن يتغير ويتطور بصورة مذهلة,بل إن معدل التطور وتسارعه بات مخيفا لأي من المتابعين أو المتخصصين في مجالات العلم المختلفة,ولا أنسي ماسمعته منذ نحو عقدين من الزمان علي لسان وزير التربية والتعليم آنذاك الدكتور حسين كامل بهاء الدين عندما قال عن تطور العلم والمعرفة والاكتشافات والاختراعات:إن جيل النصف الأول من القرن العشرين كان يكفيه أن يتفق ما تعلمه من جرعة تعليمية-مدرسية وجامعية-قبل دخوله سوق العمل حتي يتميز في حياته الوظيفية أو المهنية…بينما جيل النصف الثاني من القرن العشرين لم يعد يصلح له ذلك,فبجانب الجرعة التعليمية التي حصل عليها يجب أن يتخصص في فرع ضيق من فروع الممارسة المهنية ويستمر طوال حياته العملية في مواكبة التطور العلمي في ذلك الفرع وتأهيل نفسه للأخذ بكل جديد وتطبيقاته وإلا وجد نفسه خارج نطاق المنافسة والتميز…
ثم استطرد الدكتور حسين كامل بهاء الدين قائلا:أما المخيف بالنسبة لأجيال أحفادنا الذين ندخل بهم القرن الواحد والعشرين أنه بالقياس بمعدلات التسارع المذهل للتطور العلمي في شتي فروع العلم والمعرفة تكون أية جرعة تعليمية حصل عليها التلميذ-والطالب- في حياته المدرسية ثم الجامعية قديمة ومنتهية ومتخلفة فور تخرجه وانضمامه لسوق العمل…
وخلص الوزير من ذلك إلي رأيه الختامي الذي بينما أذكره أشفق عليه لأنه لم يستطع أن يطبقه هنا في مصر وهو أن نظام التعليم يجب أن يعتمد علي صناعة العقل وليس تخزين المعلومة…العقل الواعي المفكر المعد للبحث عن المعلومة واقتفاءأثر كل جديد وحديث…العقل الديناميكي المرن الذي لا يستسلم لثوابت جامدة ولايقف عند حدود ما بلغه من سبقوه…العقل المبدع الذي لا يعرف المستحيل ولا يتواني عن تحويل مايبدو أنه شطط أو خيال إلي آفاق جديدة ملموسة معاشة في الحاضر وغير مستعصية علي أن تتهاوي لتفسح الطريق لأكثر منها في المستقبل .
والحقيقة أن هذا الكلام مهما بدا عسير الفهم يمكن إدراكه من جيلنا نحن الذين تعلمنا في الكتاب المدرسي-والمقرر الجامعي-منذ نحو أربعة عقود,إذا عدنا بذاكرتنا إلي الوراء وتأملنا مقدار التغيرات التي مرت عليها في مجالات الاتصالات والإلكترونيات وحدها دونا عن سائر المجالات الحياتية الأخري…فالتقدم بات مذهلا ومعدل تسارع التقدم بات مرعبا يلهث وراءه كل من يريد اللحاق به ويخشي التخلف عنه.
كيف يمكن تطوير التعليم في بلادنا ليلبي طموحات الخبراء والعارفين بكل تلك الآفاق؟…إن كل مانسمعه عن تطوير الكتاب المدرسي لايعدنا بأكثر من استنساخ نماذج متحركة جيدة من ذلك الكتاب…وكل ما نسمعه عن تطوير التعليم الجامعي لايعدنا بأكثر من استنساخ نماذج مكررة من أستاذ جامعي مرموق…لكن للأسف لم يعد ذلك كافيا ولم يعد يصلح سجن العقل داخل أغلفة الكتاب المدرسي ولا أسره داخل جدران عقل الأستاذ الجامعي…فحتي إن بقي الكتاب الجيد والأستاذ المرموق جزءا من العملية التعليمية يتحتم أن يتم تصميم التطوير بإطلاق العقل بلا حدود,ومن منا اختبر الفارق بين الحصول علي المعلومة موثقة مثبتة في كتاب وبين الخوض في مناقشاتالشك والبحث واليقين للوصول إليها,يعرف جيدا الفارق بينهما ويعرف نكهة التشويق عندما تقترن بالتعليم.
هنا لايكون الكتاب المدرسي متضمنا المعلومات العلمية بالضرورة,إنما يتضمن عناصر المادة العلمية وأبوابها وفروعها مع إحالة الدارس إلي قدر محسوب من الأسئلة والمتغيرات التي يجد الإجابات عليها في المراجع العلمية في المكتبة وتكون علاقة المدرس بالتلميذ والطالب مكرسة لمناقشة الاحتمالات والبدائل ومسارات البحث عن المعلومة عبر الشك إلي اليقين.أيضا تكون تلك المناقشات مفيدة في صناعة العقل لأنها تترك الباب مفتوحا لتعدد الرؤي وتباين الآراء وقبول واحترام الاختلاف طالما أن منهج البحث وعدم التعصب المسبق هو الكفيل بترجيح معلومة علي أخري أو إبراز الصواب من الخطأ أو حتي قبول تعايش أكثر من توجه واحد في المجالات التي تتسع لذلك.
إن جمال ومتعة العلم ليست في أحادية الفكر بل في تعدد المصادر ورسوخ المعلومة ليس معتمدا بالضرورة علي تفردها بل علي استحواذها علي توافق أغلبية العلماء حولها في مرحلة زمنية معينة إلي أن تتراجع وتفسح المجال لغيرها دون فزع أو رهبة أو رفض للتغيير والتطوير بناء علي ما يجود به العقل البشري من اجتهاد وتجديد.
إن من أتيح له أن يقرأ مساجلات المفكرين والفلاسفة والعلماء منذ التاريخ القديم وعلي رأسهم علماءمدرسة الإسكندرية وما استمر في هذا السياق حتيعصر النهضةوما تبع ذلك من دخول الإنسانيةعصر الفضاء وما يذهلنا اليوم في اقتحام العقل البشري آفاق المادة المتناهية الصغر والتخليق المعملي لمواد جديدة…من أتيح له ذلك يعرف تماما أنه لا حدود لانطلاق العقل البشري وأن ما أدركه المفكرون والفلاسفة والعلماء في العالم القديم كان بالثورة علي أسوار العقل السائدة وأن ما يحققه العلم عبر العصور هو بإطلاق العقل دون خوف نحو المجهول…وكل ذلك ليس مستحيلا أن يبدأ من فصل الحضانة إذا استهدف إيقاظ العقل وإطلاق التنوير.