لم أكن أتصور أن أجلس على ذات الصوفا أو الكنبة مع آخر ملوك مصر، الملك أحمد فؤاد الثاني، ملك مصر تحت الوصاية، بعد أن تنازل والده الملك فاروق عن العرش بعد قيام ثورة يوليو (تموز) 1952. جلست إلى جواره صدفة في قصر عابدين الذي يعتبر جوهرة القصور الملكية في مصر في القرن التاسع عشر، لما يعبر عنه من حيث طراز العمارة، ومن حيث التحف الفنية، من اللوحات إلى التماثيل الموجودة في القصر. ويحسب للرئيس مبارك أنه رمم في عهده الكثير من كنوز مصر الأثرية، بما فيها القصور الملكية التي ظهرت بأبهى صورة بعد الجهود التي بذلت في ترميمها. الصدفة البحتة هي التي جمعتني بآخر ملوك مصر، وليس لي أي دور في الأمر، سوى الملاحظة وقليل من الأسئلة، بحكم الجلسة.
الملك أحمد فؤاد الثاني هو ابن الملك فاروق وحفيد الملك أحمد فؤاد الأول الذي حكم مصر في الفترة من 1917 حتى عام 1936، والذي بدأ حكمه سلطانا لمصر ثم أصبح ملكا لها عام 1922. في فترة حكمه، فؤاد الأول، جاءت على مصر ثورة سعد زغلول عام 1919 وفي عهده أيضا حصلت مصر على استقلالها من الإنجليز عام 1922. توفي عام 1936 وجاء بعده ابنه الملك فاروق الذي كان ملكا تحت الوصاية كما ابنه فؤاد الثاني فيما بعد، لأقل من عام، ثم ما إن بلغ السن حتى أصبح ملكا على مصر عام 1937 حتى خروجه في يوليو 1952 وتعيين ابنه أحمد فؤاد الثاني ملكا تحت الوصاية. في القصر هناك صورة جميلة لأم فاروق الملكة نازلي وابنها فاروق وهو يحتضنها، كتبت عليها بالإنجليزية (إلى ولدي من أمك). وكانت تلك العبارة كاشفة لذوق قصر عابدين والقصور الملكية المصرية التي صممت على طراز القصور الملكية الأوروبية، فلا تجد لوحة واحدة مثلا في القصر تعكس التاريخ الخاص بمصر، لا لوحة فرعونية واحدة، فقط بعض الخطوط العربية، التي أقحمت على الأسلوب الأوروبي في الديكور.
الملك أحمد فؤاد جاء إلى القاهرة كسائح وليس بهدف دفن أي من أقاربه كما كان يفعل في المرات السابقة، وفي هذه الزيارة أثار تصريح له كثيرا من الغبار في الصحافة المصرية، عندما قال الدكتور زاهي حواس إن الملك طلب منه التوسط لزيارة قصر عابدين، ورد الدكتور زكريا عزمي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، في «المصري اليوم» بحسم وبكلام قاطع أن الملك لا يحتاج إلى واسطة، وأن الملك قد زار القصر من قبل. وظني أن الدكتور زكريا قد دعاه لهذا السبب.
كان لي موعد مع الدكتور زكريا في الثانية عشرة ظهرا وكان موعد الملك قبل موعدي، ولما تأخر الملك عن موعده دخلت أنا قبل موعدي، ثم جاء الملك، ساعتها قال لي الدكتور زكريا هل تحب جولة في القصر مع الملك، فلم يسعني إلا القبول، فالقصر جدير بالمشاهدة. الدكتور زكريا كان كريما في استقباله للملك، الذي وضّح للدكتور أن ما نقلته الصحافة عنه كان محض افتراء وأنه لم يطلب الواسطة، كما أنه يكن كل التقدير للرئيس مبارك الذي حباه بحفاوة بالغة في أوقات صعبة بالنسبة لأسرته.
دخل الملك قصر عابدين وتفقد مكتب الملك فاروق وغرفة العرش، والتي بدت في أحسن صورة، الملك لا يتحدث العربية بأي نوع من الطلاقة ولا الإنجليزية، هو يتحدث الفرنسية، هكذا بدا واضحا في حديثي معه. الملك شغل المصريين لمدة أسبوع كما انشغلوا من قبل بمسلسل «الملك فاروق»، الذي قسم المجتمع إلى قسمين، مؤيد ومعارض. وتلك صفة من صفات المجتمعات «اللي كلمة تاخدها وكلمة توديها»؛ مجتمع شفوي بكل المقاييس. مجتمع المراجعات المستعجلة، من مراجعات الجماعات الإسلامية التي حدثت في السجون، إلى مراجعة مواد الدستور، إلى مراجعة تاريخ الملكية.
أثناء جلوسي إلى جوار الملك أحمد فؤاد في مكتب الدكتور زكريا عزمي وسماعي للغته وتمعني فيه وفي حركة جسده، لم أحس أنه منا، رغم ما فيه من طيبة تصل إلى حد الصوفية، لم يكن وجه السادات أو وجه عبد الناصر، أو وجه مبارك، ولكي تبقى الملكيات لا بد للملوك أن يشبهوا أهل البلاد ويكونوا نبتا طبيعيا لبيئتهم، وهذا ما لم أحسه وأنا إلى جوار الملك.
في المجتمع المصري اليوم طبقة تحاول أن تزيف تاريخها من خلال كتابة تاريخ كاذب عن نفسها وعن أسرها عن طريق التمسح في الملك وأسرة محمد علي، أناس سمر مثلنا، لا هم أتراك ولا شراكس، ولا ألبان، «بس ممكن يكونوا جبنه»، أي من منتجات الألبان.
وجود الملك أحمد فؤاد مهم لإعادة القراءة وتحفيز لإعادة قراءة التاريخ، ولكن مهم أن نعرف أن الملك بشخصه ليس هو التاريخ.
نقلا عم الشرق الأوسط |