بقلم/ماجد كامل
يمر علينا هذه الأيم ذكري مرور ثلاثة عشر عاما علي نياحة الأنبا غريغوريوس الأسقف العام للدراسات العليا والثقافة القبطية والبحث العلمي ؛ إذ تنيح في 22 أكتوبر 2001 . ولعل ما أهم ما يميز الانبا غريغوريوس هو عشقه الشديد لمصر ؛فهو نموذج للمصري الصميم الذي ينبض قلبه وعقله بعشق مصر ؛ ولعله ولهذا السبب وحده شغف بدراسة الآثار المصرية القديمة بعد إتمام دراسته للكلية الأكليركية عام 1939 ؛ وكلية الآداب قسم فلسفة عام 1944 .إذ التحق بمعهد الآثار المصرية وحصل علي دبلوم الدراسات العليا في الآثار المصرية عام 1951 ؛ ولقد كان زميله في الدراسة عالم الآثار المصري الكبير الدكتور عبد العزيز صالح . ولكنه لم يكتف بذلك وأنما عندما واتته الفرصة لتكملة دراسة الدكتوراة في جامعة مانشستر بانجلترا ؛ أختارموضوع يتعلق باللغة القبطية وعلاقتها باللغة اليونانية . ولقد زكاه لهذه البعثة كل من الأستاذ الدكتور عزيز سوريال عطية ( ( 1898- 1988 ) أستاذ تاريخ العصور الوسطي بجامعة الإسكندرية ؛ومؤسس معهد الدراسات القبطية بالقاهرة . والاستاذ الدكتور جرجس متي عالم اللغة الديموطيقية الشهير . وأشرف علي رسالته للدكتوراة هناك عالم اللغة القبطية العالمي النمساوي الأصل "قالتر تل " (1894- 1963 ) ولعل عشق نيافته لمصر يظهر في الكلمة التي القاها في نقابة المحامين بتاريخ 1 ابريل 1987 ؛ حيث قال " أيها الأخوة إن بلدنا مصر أجمل وأحلي بلاد العالم ... وعلي أرض مصر نشأت أعظم وأقدم حضارة إنسانية وعلمية وإجتماعية ودينية . لقد عرف آباءنا وأجدادنا أن يجمعوا بأسلوب فريد لم يعرفه شعب آخر بين العلوم التجريبية والعلوم الروحانية ؛من دون تعارض بينمهما . وقد بلغوا في الأمرين معا ما لم يستطع شعب آخر لا في القديم ولا في الحديث أن يتوصل إليه . وإلي اليوم يشهد علماء العصر العصر في الشرق والغرب أنهم عاجزون عن سبر أغوار تلك الحضارة المصرية العظيمة ...... هل تعلمون أن بلدنا مصر وأقدم بلاد العالم نشأة وحضارة ؟ إن أسم مصر يرجع إلي مصرايم أول من سكن أرض بلادنا . ومصرايم هو ابن حام ابن نوح كما جاء في سفر التكوين ( 10 :6 ) في الحقيقة أن مصر خير بلد في العالم حضارة ورحانية وعبادة وإصالة وعلما ... لقد بلغنا قديما في الحضارة والعلم شوطا بعيدا حتي أن أحد علماء السويد قال مرة : إنني لا أصدق أن شعبا يمكن أن يصنع حضارة عظيمة جدا .كما صنع شعب مصر في فترة محدودة من الزمن ما لم يستعينوا بكائنات من عالم آخر ؛أي من كواكب أخري متقدمة .... هذه الحضارة التي صنعها شعبنا في الماضي ؛في العمارة ؛وفي الفن ؛ وفي الهندسة ؛وفي الطب ؛وفي التحنيط ؛وفي الموسيقي ؛ وفي التصوير والنحت .وكل فروع المعرفة الإنسانية ؛ كيف توقفت ؟ ولماذا توقفت ؟ ولو كنا قد سرنا إلي الأمام كنا قد وصلنا إلي أبعد مما وصل إليه آبائنا وأجدادنا .... ونحن يمكنا أن نصل وأن نتقدم ونتطور إلي الأفضل بالوحدة والمحبة وبالتضامن والتفاهم ".
وفي مقال لنيافته كتبه في بتاريخ 15 مايو 1993 ؛ونشر في موسوعة الدراسات التاريخية الجزء الخاص بالأديرة والمزارات ؛رقم 24 . قال فيه " لقد درسنا الآثار المصرية والقبطية في معاهد الآثار المصرية في أقدم جامعاتنا المصرية ؛جامعة القاهرة ؛وفي جميع بلاد العالم التي أهتمت منذ القديم بتتبع الحضارة المصرية في جذورها التاريخية . ودرسنا الآثار المصرية في متاحفنا المصرية والقبطية ؛ثم في متاحف العالم كله ومنها المتحف البريطاني بلندن ؛ومتحف اللوفر بفرنسا ؛والمتروبليتان بأمريكا . وزرنا المكتبات العامة في مصر والإسكندرية واوكسفورد وكيمبردج وروما وباريس والفاتيكان ؛والبودليان وسانت كاترين بسينا . ودرسنا المخطوطات القديمة في مصر وخارج مصر بالخطوط المصرية والقبطية واليونانية والعبرانية واللاتينية ووثائق الباليوجرافيا عبر التاريخ . وجميعها ؛هذه وتلك ؛تكشف عن الحضارة المصرية القديمة بوصفها أقدم حضارة إنسانية ؛ولن تجد في كتب التاريخ في جميع أنحاء العالم ؛أقدم وأعرق من الحضارة المصرية التي أخذت منها وعنها كل حضارة أخري جاءت بعدها . لكننا الي معلوماتنا السابقة مما درسناه في معاهد الآثار نكتشف في كل يوم شيئا جديدا يثري معرفتنا بالعلوم المصرية والقبطية ؛والحضارة التي ضربت جذورها في كل تاريخ الإنسانية ؛ومقوماتها اللغوية والفنية والدينية والطقسية ؛وذلك بما تكشفه الهيئات والبعثات العلمية والحفريات ؛من حقائق فريدة مبهرة تزيد إيماننا بما بذله المصريون والأقباط من جهود بل فتوح علمية في كل ميادين الحضارة ؛ومنه الطب والهندسة والعمارة والفلك والموسيقي والكيمياء ؛وغير ذلك من علوم الدين والدنيا . فالمسلات الشاهقة التي أقاموها ؛وكذلك الأهرامات والمعابد التي شيدوها معبد الوادي والمعبد الجنائزي ؛والتماثيل العملاقة للملوك ؛وغيرها من الرموز الدينية تكشف كلها عما وصلوا إليه من فنون العمارة والهندسة " .
ولقد آمن نيافته بأن الكنيسة القبطية الآرثوذكسية هي الوريث الشرعي للحضارة المصرية القديمة ؛ وسجل هذه الحقيقة في أكثر من مقالة أو محاضرة . فمثلا في المقدمة التي كتبها للترجمة العربية التي صدرت لكتاب الفريد بتلر عن "الكنائس المصرية القديمة "وقام بالترجمة الأستاذ إبراهيم سلامة . قال نيافته " أن تراث الكنيسة القبطية هو التراث المصري القديم باقيا ومصونا ومحفوظا ؛كما أنه في هو الإمتداد الحضاري لمصر في مسار التاريخ ؛في اللغة والأدب والفن والدين والموسيقي . أما في اللغة ؛فلأن اللغة القبطية هي بعينها اللغة المصرية القديمة كما كان المصريون القدماء يتكلمونها ؛وينطقونها ... هذه اللغة المصرية حافظت عليها الكنيسة القبطية في طقوس صلواتها وكتبها ومخطوطاتها ؛بعد أن صار من المتعذر إستخدامها لغة الكلام لشدة ما عانت من اضطهاد ؛فقد كان بعض الحكام يهدد الأقباط بقطع لسان كل مصري يتكلم بلغة القبط مع أنها لغة مصر القديمة . ومع ذلك أستمر بها الكلام بطريقة سرية ؛بل وعاشت اللغة القبطية في اللهجة العربية العامية المستخدمة فعلا ؛كما يتحدث بها جميع المصريين ؛هذه اللهجة التي تعيش فيها أكثر من تسعة آلاف كلمة قبطية ؛لعل من بينها (ليلي يا عيني ) أي أفرحي يا عيني و(كاني وماني ) أي سمن وعسل ؛وفول (مدمس ) أي مطمور ..... والأمر كذلك في الفن ؛فالمعروف أن الفن القبطي الباقية آثاره إلي اليوم في المتحف القبطي بمصرالقديمة وفي الكنائس القديمة والأديرة يشهد بأنه إمتداد للفن المصري القديم فلقد احتفظ الفنان القبطي في التصوير والرسم التشكيلي والنحت ؛كذلك في صناعة السجاد وفنون التطريز المختلفة بالخصائص التي تميز بها الفن المصري القديم وسار عليه شاعرا بها ؛ومعبرا عنها ؛لأنها حية سارية في دمه ؛كذلك رسم الفنان القبطي عيون القديسين متسعة ؛تعبر باتساعها عن الطهارة والنقاء والبراءة والصفاء الروحي ؛مما كان واضحا في الرسوم المصرية القديمة علي الآثار في المقابر والمعابد ؛فاحتفظ بها الفنان القبطي في رسمه للسيد المسيح له المجد ؛وللعذراء القديسة مريم ؛ولسائر الشهداء والقديسين . ويمكن أن نقول ذلك فيما يتصل بفن العمارة ؛فالخصائص التي كانت تتتميز بها العمارة الفرعونية في المعابد ؛ أحتفظ بها الأقباط في بناء كنائسهم القديمة وأديرتهم ويمكن التعرف علي علي بعض تلك الخصائص ؛ومنها سمك الحوائط ؛وقلة الفتحات والنوافذ ورموز الزخارف الظاهرة علي الأفاريز والنوافذ المغطاة بالزجاج الملون ؛ بحيث يتوافر للكنيسة الضوء الخافت الذي يثير الخشوع والرهبة . وسمك الحوائط له في المعابد المصرية القديمة ؛كما في الكنائس القبطية والأديرة حكمته وفلسفته فهو وسيلة مناسبة لتكيف الهواء صيفا وشتاءا ؛فضلا عن محافظته علي المعابد من عوامل التعرية ؛والزرياح والزوابع والأعاصير المتلفة لسلامة المباني . "
وكتب نيافته أيضا عن الموسيقي القبطية ؛فقال عنها " الموسيقي القبطية المستخدمة في الكنائس هي بعينها الموسيقي المصرية القديمة ؛ احتفظ بها الأقباط في عبادتهم في مختلف المواسم ؛ في الأعياد والأصوام ؛وفي المناسبات المفرحة والمحزنة ؛نعم أن الكلمات والألفاظ مسيحية ؛أما الأنغام فهي فرعونية ؛لذلك تعد الألحان القبطية المستخدمة اليوم في الكنيسة القبطية ؛أقدم تراث موسيقي مصري شرقي . ومما هو جدير بالذكر أن لحن (بيكثرونوس ) الذي يرتلونه في الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة ومعناه (عرشك يا الله إلي دهر الدهور ) وبه يزفون المسيح الرب إلي القبر ؛ومن القبر إلي العالم السفلي ؛ليقتحم الجحيم ولينقل آدم وبنيه إلي الفردوس ؛بعد أن تمم مهمة الفداء لآدم وبنيه .... هذا اللحن هو لحن زفة ؛وهو من حيث أنغامه الموسيقية كان يزف به الفرعون عند موته ؛فينزل من القبر |إلي مركب الشمس ليدور مع الشمس في الخلود والحياة الدائمة ..... كذلك لحن (غولغوثا ) الذي يرتلونه يوم الجمعة العظيمة بعد صلاة الثانية عشرة ؛ وهم يدفنون صورة المسيح المصلوب ؛كوسيلة إيضاح لدفن المسيح بعد إتمام عملة الفداء بالصلب ؛ هو بعينه اللحن (من حيث الموسيقي والأنغام ) الذي كان يستخدمه الكهنة الجنائزيون في مصر القديمة أثناء تحنيط جثة الملك ودفنها " .
ومما هو جدير بالذكر أن نيافته انتدب للتدريس في أحدي جامعات ألمانيا ؛خلال الموسم الدراسي ( 1978- 1979 ) لإلقاء سلسلة محاضرات بعنوان " الكنيسة القبطية ؛تاريخها ؛حضارتها ؛ إستمرارية الحضارة الفرعونية فيها ؛ لاهوتياتها ؛حاضرها ) .
أنه حقا مصري حقيقي لا غش فيه . نيح الله نفسه في فردوس النعيم .