الجامعة اسم مشتق من الأصل «جمع» وليس «فرّق». والجمع فى ميدان البحث العلمى هو الجمع بين الرأى والرأى الآخر، تقابل وجهات النظر، التفكير فى الافتراض والافتراض المضاد. الجامعة هى مكان اختبار جميع النظريات من صغار الباحثين ومن كبارهم دون استبعاد شىء منها. وتضم الجامعة عدة كليات. والكلية مشتقة أيضا من «كل» وليس من «جزء». فالكلية تجمع بين كل أقسام المعرفة ولا تضع أحدها ضد الآخر بما فى ذلك العلوم السياسية. الحقيقة فى الكل وليس فى الأجزاء. تلك هى الجامعة الوطنية وليس الجامعة الدينية أو المذهبية أو الطائفية التى نشأت للدفاع عن عقيدة أو مذهب مثل الجامعات الأزهرية والكاثوليكية والبروتستانتية. تقوم على حرية الفكر وتعتمد على البرهان.
ولا تنفصل الجامعة عن هموم الوطن. فلا فرق بين استعمال المنهج العلمى داخل الجامعة وخارجها. وطالما كانت الجامعة حاملا للحركة الوطنية. وكانت شعاراتها مثل «الاستقلال التام أو الموت الزؤام» ترفع داخل الجامعة وخارجها، لا فرق بين الحركة الطلابية والحركة الوطنية. وقد كانت المظاهرات فى الجامعة ضد الملكية والإقطاع، وضد الاحتلال الأجنبى. وهى المبادئ التى تفجرت فى ثورة يوليو ١٩٥٢. وقد ارتبطت الجامعة فى نشأتها بثورة ١٩١٩ وكانت تجسيدا لها. وكان أبطال الحركة الوطنية المصرية بعد ثورة عرابى هم المنادين بضرورة إنشاء الجامعة. وكانت الجامعات الألمانية وصياغتها لفلسفات الوحدة أحد العوامل لتحقيق الوحدة الألمانية. فالطالب يعيش حياة واحدة، يبحث عن الحق النظرى داخل المدرج الجامعى ويمارس الحق العملى خارجه. لا فرق بين هموم العالم وهموم المواطن، بين هموم الفكر وهموم الوطن خاصة فى ميدان العلوم الإنسانية. ودون ذلك يقع المواطن فى ثنائية بين النظر والعمل، بين العلم والمواطنة. العلم أساسه التجربة والبرهان. والمواطنة التعصب والتحزب والصراع، بالإضافة إلى ثنائيات أخرى مثل العلم والإيمان، والدليل والاعتقاد، والفلسفة والدين.
وما يحدث الآن من التخوف من بداية العام الجامعى ومظاهرات الطلاب ومواجهة ذلك بالشرطة وأجهزة الأمن، والبوابات الإلكترونية، والكروت الممغنطة، وتفتيش الحقائب والسيارات، وتأجير شركات الأمن الخاصة بما لديها من أجهزة للكشف عن المفرقعات، وإنفاق جزء من ميزانية الجامعة على وسائل الأمن، كل ذلك لن يحمى الجامعة من المظاهرات. فالأمن يبدأ بالداخل أولاً قبل الخارج، الأمن فى القلب قبل الأمن فى حرم الجامعة. والأفضل توفير هذا الجهد كله باستعمال طرق أكثر نجاعة ونجاحا لمواجهة المظاهرات داخل الجامعات وهى طرق الحوار بين الآراء المتعارضة حتى لو تحولت إلى خصومات. فالجامعة مهد الحوار. والمدرج مكانه، حوار بين الأساتذة والطلاب عن أهم النظريات لفهم الواقع وأفضل المناهج للتعامل معه. والأفضل أن تبدأ المبادرة من رئيس الجامعة بتوجيه نداء إلى الطلاب بدعوة للحوار. يدعو ممثلى الحركة الطلابية بكل اتجاهاتها إلى داخل القاعة المهيبة لمجلس الجامعة مع بعض الأساتذة المعروفين بانشغالهم بالقضايا العامة والذين يمثلون أيضا الاتجاهات الفكرية والعملية فى البلاد. ويبدأ كل فريق بعرض مطالبه. والمقبول منها من كل طرف يتم التسليم به من الطرف الآخر دون حرج. ويتم الحوار تدريجيا بالاعتراف بأن هذا الوطن للجميع، وأن الجامعة هى موطن الأمن والأمان له. فلا يوجد شىء لا يمكن الاتفاق عليه طبقا لنظام الأولويات. فلا حرج أن يعرض الطلاب مطالبهم بدءا بالإفراج عن الزملاء المعتقلين حتى لا يضيع مستقبلهم كأطباء ومهندسين ومحامين وعلماء طبيعة وعلوم إنسانية. ولا حرج أن يعرض الطلاب ضرورة استقلال الحرم الجامعى وألا يكون مسرحا لتدخل الشرطة وأجهزة الأمن، وألا يكون فى سلطة رئيس الجامعة فصل الطلاب والأساتذة المنشغلين بالسياسة. ولا حرج أن يطلب رئيس الجامعة ضرورة حفظ المنشآت الجامعية وعدم الإضرار بها، وعدم تعطيل الدراسة، وعدم الاعتداء على موظفى الجامعة والذى يمتد إلى أعضاء هيئة التدريس. وعلى امتداد الحوار العقلى الهادئ، تطمئن النفوس، ويتغلب العقل، ويقترب المتباعدان. ويجد الخصوم أن ما يجمعهم قد يكون أكثر مما يفرقهم.
وبعد أن تهدأ الجامعات، ويكتشف المتظاهرون أن هناك حدا أدنى يمكن الاتفاق عليه مع الإدارة الجامعية التى تمثل السلطة السياسية أكثر مما تمثل الجامعيين بعد القرارات الأخيرة بتعيين رؤساء الجامعات والعمداء ورؤساء الأقسام، وإلغاء الانتخابات التى طالما ناضل الأساتذة من أجل الحصول عليها، ومارسوها أعواما قليلة، خوفا من صعود تيار معين ليس على وفاق مع السلطة السياسية، يتم نقل الحوار من داخل الجامعة إلى خارجها، ومن الحوار الجامعى إلى الحوار الوطنى من أجل البحث عن الحد الأدنى من الاتفاق بين السلطة والمعارضة. وكلاهما شرعيان. والسلطة اليوم قد تكون معارضة فى الغد، والمعارضة اليوم قد تكون السلطة فى الغد. فتنشأ المصالحة الوطنية التى تكون أساس الائتلاف الوطنى. فتلتئم الجراح الناشئة عن العنف السياسى بين السلطة والمعارضة. كل منهما يعتبر نفسه السلطة الشرعية ويقصى الآخر. والتعود على الانتماء إلى الجامعة كطالب بداية التعود على الانتماء إلى الوطن كمواطن. ومن لا يتعلم الحوار داخل الجامعة فإنه لن يتعلمه خارج الجامعة. ومن يمارس العنف داخل الجامعة سيمارسه خارج الجامعة. ومن يتعود على مواجهة الشرطة وأجهزة الأمن داخل الجامعة سيواجهها خارج الجامعة. ويكون السؤال: من أين نبدأ؟ وتكون الإجابة من داخل الجامعة، بالاتفاق على الحد الأدنى بين المتخاصمين. والانتماء إلى الجامعة بداية للانتماء إلى الوطن، بداية الحوار فى الجامعة نهايته فى الوطن. فالجامعة للجامعيين مثل الوطن لكل المواطنين دون تدخل الشرطة وأجهزة الأمن بين الطرفين.
ويتعود الوطن على الحوار بداية بالأسرة، بين الأب والأم والأبناء، وفى المدرسة بين المدرس والتلاميذ دون عصا وعقاب والوجه إلى الحائط، والحرمان من الفسحة، والتقديم إلى الناظر، والضرب على القدمين، والشكاية إلى رب الأسرة من هذا الابن العاق. ثم يكون غنيمة سهلة للجماعات المتطرفة دينيا أو سياسيا، ويدخل الجامعة فيجد البوتقة التى يستقر فيها. لا يعترف بأحد كما لا يعترف أحد به. ولا يحاور أحدا لأن أحدا لم يحاوره. وقد يجد نفسه فى «داعش» أو «القاعدة» لتحقيق ذاته فى حلم تاريخى لإعادة الخلافة والتى قد يصبح فيها سلطانا. ويتم الحوار فى المصانع بين رئيس العمل والعمال بدلا من تدمير المصنع أو حرقه. ويتم الحوار بين الفلاح وصاحب الأرض بدلا من أن يقوم بحرق المحصول الذى جمعه بيديه دون أن يكون له. فلم يقل له أحد «وَالصُّلْحُ خَيْر» أو ذكّره عندما أرسل علىّ بن أبى طالب، عبدالله بن عباس إلى من خرجوا عليه بعد التحكيم وكانوا تسعة آلاف ليرجع إلى معسكر علىّ ومعه ثلاثة آلاف. لم يقرأ له إحدى آيات الحوار المتكررة فى القرآن الكريم. ولم يشر عليه أحد بقراءة أدب الاختلاف المملوء فى تراثنا القديم. لم يبين له أحد من مخالفيه أن الحقيقة وجهة نظر. لا يمتلكها أحد. فهى متعددة الجوانب. لا يرى منها الإنسان إلا جانبا واحدا. لم يحاول أحد أن يقضى على تراث الفرقة الناجية الواحدة، وهى السلطة، والاثنتين وسبعين فرقة الضالة، وهى المعارضة.
نقلا عن المصري اليوم