كمال زاخر
على الرغم من الضجيج المصاحب لانسحاب الإرهاب والارتباك، ومعارك ربع المتر الأخير لأنظمة أزاحها الحراك الشعبى الجارف والواعى، يلتئم شمل لفيف من المفكرين والباحثين فى هدوء يليق بالمهمة التى حملوا مسئولية إنجازها، بمبادرة شخصية منهم، ولحساب الوطن والتاريخ، لرصد وتوثيق "الحالة القبطية"، حتى لا تستباح الوقائع من مزورى التاريخ، ومحترفى الكتابة الملونة والانتقائية التى تستنطق الأحداث بما ليس فيها
وليستكملوا مجهودات مضنية سابقة، تصدت لها وحملت مسئوليتها مراكز بحثية لها ثقلها فى الأوساط الأكاديمية والسياسية، وفى مناخات ضاغطة، وعلى غير هوى السلطات الحاكمة آنذاك، لكنها صارت مرجعاً يحتل مقدمة مراجع الدراسات المتعلقة يالقضايا "المصرية - القبطيية"، سواء فى أبحاث المراكز السياسية الاستراتيجية، أو فى الدراسات الأكاديمية أو فى رسائل الدرجات العلمية "الماجستير والدكتوراه"، أو فى مراكز المعلومات.
كان التقرير الأول "تقرير الملل والنحل والأعراق" الصادر عام 1996، والذى اقتحم سياج التعتيم السميك الذى ضرب حول الأقليات فى إنكار لمعاناتها، وقضاياها، وكان من المقرر أن يعقد بالقاهرة لكنه طورد بقوة وإصرار وكان محل ملاحقة أمنية عاتية، تصاحبها موجات هجوم إعلامية تشوه القائمين عليه وتتهمهم بالعمالة والاتصال بجهات أجنبية لخلخلة الأمن القومى، فلم يجد القائمون عليه إلا الانتقال به إلى "ليماسول" بقبرص، يعقدون مؤتمرهم ويطرحون أوراقهم وأبحاثهم ويصدرون تقريرهم، ويقابل بهجوم كاسح لكن مفرداته تتحول إلى أساسات راسخة يرتكن إليها كل من يتصدى بالبحث فى جذور أزمة الاندماج الوطنى والدولة المدنية، وتتبع منابت التطرف والإرهاب، لكن التقرير يتوقف بعد صدور عددين منه.
وفى توقيت متقارب (1995) يصدر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية التابع لمؤسسة الأهرام الصحفية، تقرير "الحالة الدينية بمصر" يتناول فى جزء منه ما يتعلق بالأقباط، ويتوقف التقرير بعد عددين، رغم ما أحدثه من ردود فعل إيجابية كانت كفيلة بتفكيك حالة الاحتقان الطائفى المتنامية والمستعرة، وربما لإرساء قواعد رصينة تؤسس لقيام دولة مدنية حقيقية، لكنه اصطدم بغياب الإرادة السياسية لدى النظام الحاكم آنذاك.
وعندما تنفجر الموجة الأولى من الثورة المصرية (25 يناير 2011) يشهد الوطن خروجاً قبطياً مؤثراً وفاعلاً، ويشهد تحولات تخلخل ما استقر فى رؤى النخب عن السلبية القبطية والانكفاء والتحصن خلف أسوار الكنيسة، ويواجه الخروج القبطى بردود أفعال متباينة، وفى بعضها منزعج، وتنضج التجربة المصرية القبطية على نار المواجهات وتكشف بعضا من تحالفات داخل المشهد السياسى المصرى صادمة ومباغتة، لذا يأتى خروج الأقباط فى الموجة الثانية من الثورة (30 يونيو 2013) أكثر فاعلية وتأثيراً، ويتأكد فيه أن الأقباط رقم صعب فى المعادلة المصرية لا تستقيم بغيره، ولا يمكن الاستعاضة عنه أو إغفاله.
هنا يصدر تقرير "الأقباط بين ثورتين"، وهو بسبيله للطرح العام فى غضون أيام قليلة، ويقع فى نحو سبعمائة صفحة من الحجم الكبير، يتميز عن سابقيه بأنه يأتى فى مجمله برؤية قبطية خالصة، من أجيال مختلفة، وتخصصات ذات صلات متعددة بموضوع ومجال التقرير، وبين مستشارى تحرير التقرير علماء ثقة لهم ثقلهم البحثى والعلمى ولهم إسهامات شديدة الأهمية فى قضايا الدولة المدنية ومحاورها وإشكالياتها وجذورها، تضم بينها الأستاذ الدكتور محمد عفيفى أستاذ ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة، والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، والأستاذ الدكتور محمد منير مجاهد، العالم فى مجال الطاقة الذرية ونائب رئيس هيئة الطاقة الذرية السابق، ومؤسس مجموعة "مصريون ضد التمييز الدينى"، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة مصريون فى وطن واحد، والأستاذ الدكتور نبيل عبد الفتاح رئيس مركز التاريخ بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، ومحرر تقرير الحالة الدينية فى مصر.
وفى مقدمة التقرير يكتب رئيس تحريره الباحث الصحفى والسياسى والخبير فى شئون الأقليات الأستاذ سليمان شفيق: "هو مغامرة علمية من المشاركين فى صناعته، رغبة فى رصد وتحليل مساهمة المواطنين الأقباط فى مختلف مناحى الحياة المصرية، ليسوا كأقلية كما يذهب البعض، بل كجزء لا يتجزأ من النسيج المصرى، وكمكون حقيقى من مكونات الثورة المصرية والجماعة الوطنية".
وتنتهى كلمات رئيس تحرير التقرير بالتعريف بمضمونه: "يتضمن التقرير ثلاثة محاور أولها حالة الأقباط كمواطنين منذ بزوغ فكرة المواطنة مع ظهور الدولة الحديثة فى أسرة محمد على، مروراً بثورة يوليو 1952، وثورة 25 يناير 2011، وما تلاها من تطورات فى المجتمع السياسى المصرى، ودور النخبة القبطية وحركتها، وصورتها فى الإعلام، وتمثيلها الرياضى، وعلاقتها بالمهجر".
والمحور الثانى هو الكنيسة ونظرات من الداخل إلى المجلس الملى، وإلى دور الكنيسة الإجتماعى والتعليمى والثقافى.
والمحور الثالث يتضمن ملاحق وشهادات من أهم الشخصيات الكنسية والقبطية العامة والمطالب القبطية، وإحصاءات عن العنف السياسى ضد الأقباط.
التقرير يكتسب أهميته من أمرين كونه شهادات وتحليلات قبطية لم تكتب تحت ضغط مواءمات سياسية، ولم تنقصها المكاشفة والمصارحة، وكونه تأريخا توثيقيا لوضعية الأقباط على مدى زمنى يتجاوز القرن، وإيراده بتدقيق لكل الاستهدافات الإجرامية من خلال وثائق رسمية ومتابعات لصيقة لحظة الأحداث.
وهو على جانب آخر يقترب من النسيج القبطى يُعرِّفه لمن اكتفى بتهويمات إعلامية مدعومة وموجهة من الأنظمة الحاكمة متتالية حاولت ترسيخ صورة نمطية له على غير الحقيقة.
هو تقرير يدعم الباحث بما يوفره من معلومات ووثائق، ويحتاجه السياسى الذى يسعى لتقديم حلول مترجمة فى برامج حقيقية تحقق الاندماج الوطنى والخروج من نفق الانقسام، ويوفر لصاحب القرار قاعدة معلوماتية لا تتجاذبها صراعات التهوين والتهويل، يبنى عليها قراراته ورؤيته.