بقلم: مرقس كمال
خرج الزارع ليزرع رامياَ بذاره على الأرض فتناثرت ما بين طريق وأماكن محجره ووسط شوك فأنداس بعضها وأكلته الطيور واخر احرقته الشمس واختنق الكثير ، وكان لأحد تلك البذار نصيباً أن تقع على الارض الجيده ذات التربة الصالحة ومع مرور الوقت والاهتمام وتوافر كل العوامل اللازمه للاثمار انبتت تلك البذره وتأصلت جذورها وازدادت عمقاً يصعب معه زعزعتها فقد اصبحت شجرة ضخمة شامخة عالية وارفة الاوراق تتأوى بين أغصانها المتشابكه طيور السماء ، لها من الثمار ما يشتهيه كل بشر ومن الجمال ما يريح كل عين ومن النضارة والحيوية ما يبهج كل نفس ، وها هو وقت الحصاد قد حان فجنى المزارع تلك الثمار بعد اكتمال نضوجها ، باع بعضها ووزع بعضاً اخر وكان لأهل بيته نصيباً منها فقد أشبعت الكثيرين .
امام تلك الشجره وقفت متأملاً فقد بلغت من العمر الكثير وشوهت العوامل البيئيه والتغيرات المناخيه جمالها فسقطت أوراقها الوارفه وجفت اغصانها بعد ان نضبت المياه وتشققت الارض ، وهربت الطيور باحثة عن مأو اخر ، فقد شاخت الان وأصبحت شجرة عجوز لا نفع لها ولم يعد أحداً يأتى ليجنى منها ثماراً ، بالطبع لا تملكه الآن بعد أن اختفى خضارها وتلاشت نضارتها وتبدد جمالها فنظرت حولى فى عجب شديد لاجدنى واقفاً أمامها بمفردى فلم أر أحداً ممن أكلوا وشبعوا من خيرها بل وممن تكسبوا من نتاجها ، ورحت أتسآل هل عاد أحداً فى يوم ما يشكر شجرة على ما قدمته ..؟ هل قدم لها فى جفافها وآلامها وعجزها ولو كوب ماء ترتوى به ..؟ هل فكر أحد واجتهد فى عمل اى شئ حتى ولو معنوياً يسهم فى اعادة نضارتها ..؟ والحق لم اجد فالكل تركوها كسيرة القلب مرة النفس حزينة ، ساعين وراء غيرها من ذوات الثمار ممن لم يخوروا بعد ، فالكل اعتاد أن يأخذ فقط لا أن يعطى ..!!!
فسعيت من جهتى نحو إحياءها من جديد فى محاولات بدت صغيره وبلا جدوى لكن كان أملى بلا حدود عل أحداً يرانى فيشاركنى ولكن طال الوقت ولم يأت احد .. لم أيأس بل تجدد املى مع ظهور احدهم فها هو يقترب بشده ويخرج من جعبته مساعدة ما ، ولكن يا للكارثة فقد كان منشاراً قصد به تقطيع الاغصان البنيه ليستخدمها كحطب فانتهرته وحاولت منعه لكن محاولاتى كلها بائت بالفشل فقد صرخ فى وجهى لا شأن لك بهذه الشجرة ، فحزنت وبكيت لحالها وهى عاجزه حتى أن تدافع عن نفسها ، تبكى ودموعها لا يراها اياً من المنتفعين الذين لم يروا فيها سوى ثمارها الشهية ، لذا تابعت عن قرب تلك الشجره التى احببتها وتعايشت معها واحسست بآلامها لأجد عنايه السماء تشرق لها بشمس جديدة حيث تعدلت الظروف وانهمرت الامطار بعد قطيعة دامت طويلاً فسرعان ما استعادت نضارتها يوماً بعد يوم ونضجت ثمارها من جديد فعششت الطيور بعد ان رحلت قبلاً فنظرت متعجباً لأجدها شجرة عجوز لكنها شامخه كما هى ، مثمره كما اعتدناها ، مأوى لطيور السماء كما عاهدناها .
ومع عودتها عاد مرة اخرى من فارقوها فى جفافها حقاً قد ادهشنى الزحام من أين أتى هؤلاء واين كانوا ..؟!! فرفعت عينى للشجره لاجدها قد جففت دموعها وارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة ، وبدأت تعطى الجميع بسخاء غير ناظرة لشكرهم او اكرامهم ، غير معاتبة أو لائمة لهم ، ناسية تجاهلهم لها فى هوانها بل وأذيتهم لها وتجريحها وكأن شيئاً لم يكن ...!!! ، فاسرعت لأسألها بعجب عما رأيت فكان ردها هكذا أشكر الهى انه اوجدنى فى تربه صالحه ووهبنى كل هذا الجمال وتلك الثمار لا لأجلى بل ليتمتع ويشبع بها الكثيرين فعما قليل تفنى حياتى لأصبح مجرد ذكرى ، فما فائدة الجمال بعد أن يصير تراباً ..؟ وما نفع الثمار ان احتفظت بها للفناء ..؟ وكيف اجد حياتى ان لم اهلكها لغيرى ..؟ فما وهبنى الله قد وهبته للجميع .
فرفعت للوقت عينى للسماء باكياً متمنياً أن أكون شجرة مغروسة على مجارى المياه فى تربة صالحة جيدة أقدم بسخاء كل ما لدى أنفق وأنفق من اجلهم لا لمن أراه مستحقاً وحسب بل للجميع متغاضياً مسامحاً من يؤلمنى يجرحنى يتجاهلنى يقابل المحبة والعطاء بالكراهية والابتعاد .. نعم تمنيت أن اتغاضى عن كل هذا مجدداً ومستدعياً قوة الحب التى فى داخلى التى سكبها الهى فى قلبى بفيض وغزارة عندما منحنى روحه القدوس .. نعم تمنيت ان اكون كما كان يسوع على الصليب متغاضياً عن الآلام مسامحاً لكل من اهانوه غافراً لكل من صلبوه وطعنوه بل واهباً لهم بموته حياة أبدية .. نعم يارب أجعلنى شجرة حياة تعطى الجميع بسخاء ، تفنى نفسها لغيرها على الارض واثقة أنها ستبقى للأبد .