من أين جاء الإخوان بكل هذا العنف؟ ولماذا يفعلون ما يفعلونه؟ وهل من الدين أن تحارب الجماعة وطنها؟ إذا أردت أن تعرف السبب فلا تُرجع الأمر لسيد قطب ومشروعه التكفيرى الواضح، ولكن عُد أولاً، وقبل أى شىء، لحسن البنا وأفكاره وتاريخه وبداية تأسيسه للجماعة، ولعلك ستقع فى الحيرة أكثر وأكثر إذا أردت معرفة فقه حسن البنا ومدرسته المذهبية، فقد كان فى حقيقة الأمر غامضاً فى هذه الناحية، إذ لم نرَ من حسن البنا كتاباً رائداً فى الفقه أو الحديث أو التفسير أو أى علم من علوم الدين، وأظنه لم يكن مؤهلاً لكتابة أى كتاب يضعه فى مصاف المجددين، لذلك وجّه جهده كله فى صناعة جماعة حركية. ومن الغريب أن بعض تلاميذ هذا الرجل كتبوا عنه مئات الكتب، وكان من ضمن ما كتبوا عشرات فى تفسير «رسائل البنا» وكأنها قرآن يحتاج إلى تفسير. لم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن الجماعة كلها، عبر تاريخها، مارست شيئاً من النرجسية وهى ترسم صورة حسن البنا فى أذهان أعضائها، وصولاً إلى محاولة ترسيخ نورانية غير حقيقية للرجل فى ضمير الأمة كلها، فحسن البنا لديهم فوق القداسة.
ولكن، من الذى زرع هذه الفكرة عندهم حتى أصبحوا يطلقون على البنا لقب «الإمام الربانى» إيحاءً بأنه من الرجال المتصلين بالله؟! حسن البنا هو الذى ألقى فى أمنية الإخوان هذه الأفكار المنحرفة، ولك أن تُراجع رسائله، فهذه هى بضاعتهم، قال فى إحدى رسائله وهو يُعَرِّف الإخوان موقعهم من الرسول صلى الله عليه وسلم: «نحن ولا فخر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! هذه منزلتكم فلا تصغروا أنفسكم فتقيسوها بغيركم»! حسن البنا يزكى نفسه وجماعته فيقول إنهم صحابة رسول الله، ولا أظنه انتبه للآية القرآنية (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) ولكن البنا يصر على الاستمرار فى التزكية بجرأة كبيرة، فحين يصل به الوجد إلى أشُده يقول لإخوانه: «قد يقول الناس لكم لا زلتم غامضين فقولوا لهم نحن الإسلام أيها الناس»! وبذلك أصبحت الجماعة هى الإسلام نفسه، ولذلك أصبح مرشدهم هو النبى لا كذب.
يقول البعض إنه رغم انحراف الجماعة فى فهم الدين فهى مع ذلك «جماعة دينية» ولكن هذا هو السراب، أو قل الوهم، فلا الجماعة دينية ولا هى تبتغى الدين، وبدايتها تخبرنا عن طرف من حقيقتها، ولنا أن نستخدم بعد ذلك كل وسائل الاستنباط لمعرفة الحقيقة الكاملة. بدأ البنا فى الإسماعيلية عام 1928 فكان هذا هو عام التأسيس الرسمى لجمعية الإخوان، كان غرضها الظاهر هو الدعوة إلى الله، وجماعة الله تبدأ دائماً ببناء المسجد، ولكن قصة المسجد هذه كانت كاشفة عن كثير، فعنها يقول البنا فى مذكراته: «وقبل أن يتم بناء المسجد بقليل، وقد أوشكت النقود المجموعة أن تنفد، وأمامنا بعد مشروع المسجد مشروع المدرسة والدار، تصادف أن مر البارون «دى بنوا» مدير شركة القنال، فرأى البناء فسأل عنه وأخذ عنه معلومات موجزة، وبينما أنا فى المدرسة إذ جاءنى أحد الموظفين يدعونى لمقابلة البارون بمكتبه بالشركة فذهبت إليه فتحدث إلىّ عن طريق مترجم بأنه رأى البناء وهو يود أن يساعدنا بتبرع مالى، وهو لهذا يطلب منا رسماً ومذكرة للمشروع، فشكرت له ذلك وانصرفت ووافيته بعد ذلك بما طلب ومضى على ذلك شهور كدنا ننسى فيها البارون ووعده، ولكنى فوجئت بعد ذلك بدعوة ثانية منه إلى مكتبه، فذهبت إليه فرحب بى ثم ذكر لى أن الشركة اعتمدت مبلغ خمسمائة جنيه مصرى للمشروع، فشكرت له ذلك، وأفهمته أن هذا المبلغ قليل جداً ولم يكن منتظراً من الشركة تقديره لأنها فى الوقت الذى تبنى فيه على نفقتها كنيسة نموذجية تكلفها 500000 خسمائة ألف جنيه أى نصف مليون جنيه تعطى المسجد خمسمائة فقط، فاقتنع بوجهة نظرى وأظهر مشاركتى فيها ولكنه أسف لأن هذا هو القرار، ورجانى قبول المبلغ على أنه إذا استطاع أن يفعل بعد ذلك شيئاً فلن يتأخر. وشكرت له وتسلم أمين الصندوق المبلغ».
والذى يلفت النظر فى هذه الفقرة التى رواها لنا البنا، أن مبلغ التبرع كان قدره خمسمائة جنيه مصرى! هل تعلمون كم يوازى هذا المبلغ الآن وفقاً لسعر الذهب؟ يساوى مليون ونصف تقريباً! فى الوقت ذاته فإن ما ذكره البنا عن قيمة تبرع الشركة لبناء كنيسة هو من الأمور التى بثها فى مذكراته حتى يُسوغ لنفسه أمام الناس فى الحال والاستقبال قبوله هذا التبرع من محتل وضع يده على البلاد قهراً، إلا أنه وقع فى مبالغة ممجوجة حينما ذكر أن الشركة تبرعت لكنيسة بنصف مليون جنيه، وهو مبلغ تُبنى به وقتها مدن كاملة، ويبدو أنه عقد هذه المقارنة ليهوّن بها من قيمة المبلغ الذى تلقّاه وقلة أثره، حتى إنه ذكر أن أحد المتبرعين تبرع للمسجد بخمسمائة جنيه أيضاً، وكأن هذا المبلغ كان متوافراً لدى عموم الناس يدفعونه من فضل أموالهم!
إذن، ما الذى دعاه إلى ذكر قصة هذا التبرع «المشبوه»؟ لم يذكر البنا هذه القصة إلا لأنها كانت حديث الساعة فى مدينة الإسماعيلية، تحدث بها كل الناس، وحدث بسببها شقاق أدى إلى انشقاق بعض الإخوة الذين انضموا للجماعة، فكان على البنا أن يكتبها طالما أنها أصبحت معروفة بطريقة تبرئه، فكانت طريقة سردة تبدو وكأنه يدافع عن نفسه. ولكن السؤال المهم هو: من الذى عرض التبرع؟ هل الشركة هى التى عرضته من تلقاء نفسها حباً فى فعل الخير؟! أم أن حسن البنا هو الذى طلب ذلك وقدَّم من أجل هذا رسماً هندسياً شفعه بالطلب؟
الإجابة نلجأ فيها للمنطق والاستقراء، فإذا كانت الشركة هى التى بادرت بالتبرع دون أن يقدم لها البنا طلباً بذلك لكان عليه، وفقاً للخلق القويم، أن يقبل التبرع دون أن يعاتب المتبرع بقلة التبرع، ودون أن يعايره بأنه تبرع فى موضع آخر بمبلغ أكبر، ولكن المساومة التى حدثت لا تكون إلا عندما يكون هناك عرض يتدارسه طرفان، يقول أحدهما للأول سأدفع لك مبلغ قيمته كذا، فيقول الثانى للأول هذا مبلغ بخس لا يكفى للمطلوب الذى سأقدمه لك، وتنتهى المساومة بوعدٍ بدفع مبلغ آخر فى المستقبل، وقبولٍ من المساوم للمبلغ.
لم يتوقف كثير من الباحثين عند هذه القصة وحاول الإخوان إيجاد تبريرات متعددة لها ولكنها كاشفة عن أن الأمر لم يكن ديناً على الإطلاق ولكنها كانت دنيا ارتدت ثوب الدين، وليتها دنيا فقط، ولكنها دنيا ملتحفة بالعمالة لمن كان يحتل البلاد.