بقلم يوسف سيدهم
في مشهد استدعي من الذاكرة أحداث استفتاء انفصال إقليمكيبيك الناطق بالفرنسية عن كندا في ثمانينيات القرن الماضي…حبس العالم أنفاسه منذ عشرة أيام ترقبا لما يسفر عنه استفتاء مواطني إسكتلندا للانفصال عن التاج البريطاني…ومثلما كان انفصالكيبيك عن كندا الأم محاولة عاطفية لسلخ الجزء الفرنسي اللغة والثقافة عن الدولة الكندية بتأجيج الفروق العنصرية واستثمارها في إثارة المشاعر الوطنية الانفصالية
كذلك كانت النعرة الوطنية واختلاف الجذور العرقية والثقافات التاريخية وراء تصاعد الرغبة بين جزء من مواطني إستكلندا للانسلاخ عن المملكة المتحدة- إنجلترا وإسكتلندا وأيرلندة الشمالية وويلز-بعد أكثر من ثلاثمائة عام من الوحدة المتناغمة المستقرة الخالية من الصراعات!!
حبس العالم أنفاسه ترقبا لنتيجة الاستفتاء الذي جري الخميس 18سبتمبر الجاري وجاءت نتيجته لصالح بقاء إسكتلندا جزءا من المملكة المتحدة وعدم فقدان الملكة إليزابيث الثانية نحو ثلث مساحة مملكتها الأمر الذي كان سيؤثر بشكل درامي علي التاج البريطاني ويفجر تداعيات قد تصل إلي إحياء نزعات كامنة لدي جزء من الشعب الإنجليزي نفسه للإطاحة بالملكية وتأسيس أول جمهورية إنجليزية في العصر الحديث (بعد جمهورية أوليفر كرومويل عام1650).
جاءت نتيجة الاستفتاء في صالح رفض استقلال إسكتلندا عن المملكة المتحدة بنسبة 55.30% من المشاركين في الاستفتاء(نحو84% من الناخبين المقيدين) في مقابل44.70% صوتوا لصالح الانفصال…ومن الطبيعي أن تكون النتيجة سعيدة للفائزين ومحبطة للخاسرين,لكن مايجب أن نتأمله في هذا المشهد برمته هو الملامح الحضارية والمعايير الراقية التي جري في ظلها والتي قدمت للعالم نموذجا يحتذي في الالتزام بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وكفالة حق تقرير المصير دون حساسيات أو ضغائن أو عنف وباستخدام آليات الترغيب السلمي وعدم الترهيب سواء بين الفريقين المتضادين من مواطني إسكتلندا أنفسهم أو بين مواطني إنجلترا ومواطني إسكتلندا الذين كانوا في مواجهة حالةطلاق!!
أقول ذلك لأننا لم نعتد في منطقتنا من العالم-أو حتي في كتلة العالم الثالث التي تتخذ تلك التسمية عوضا عنالعالم غير المتحضر!!-أن يتم حسم الخلافات بين العرقيات المختلفة أو الثقافات المغايرة بطريقة حضارية,بل إن بواعث تلك الخلافات وما تؤدي إليه من نزعات انفصالية هي أيضا نختلف تماما عما نعايشه في العالم الراقي المتقدم المتحضر…فإن كنا نتذكر حالةكيبيكالكندية أو نتناول حالة إسكتلندا البريطانية اليوم فتلك حالتان تعكسان نزعات عاطفية للاستقلال وتأسيس دولة ذات سيادة,لكنها ليست علي الإطلاق رغبة فئة من السكان للانسلاخ عن وطنهم الأصلي الذي يضطهدهم ويسئ معاملتهم ويهضم حقوقهم ويفرق بينهم وبين أقرانهم في الوطن لاختلاف العرق أو اللغة أو الثقافة أو الدين أو الجنس أو اللون…
مثلما عايشنا النزاعات والصراعات التي تفجرت في تيمور الشرقية بإندونيسيا وفي جنوب السودان بالسودان وفي البوسنة والهرسك بيوجوسلافيا وفي كريميا بأوكرانيا…وغيرها مما يتفجر حولنا في العراق وليبيا وكلها صراعات دموية رهيبة يفجرها الظلم والقهر والتفرقة البغيضة وتولد اشتياقا حادا للمجموعات المتباينة للانفصال والخلاص من بئس المصير.
لذلك شتان بين متابعتنا الشيقة خلال الأشهر الماضية لوقائع الحملات والحملات المضادة التي سادت إنجلترا وإسكتلندا مع وضد الانفصال عن التاج البريطاني وما تخللها من مؤتمرات سياسية ومنتديات إعلامية ومساجلات بين السياسيين والاقتصاديين والعسكريين وخبراء الشئون الدولية…كل ذلك تم في جو عاقل مسالم يسيطر عليه التحليل والإقناع والترغيب من كل طرف للتأثير علي الطرف الآخر…
أقول شتان بين هذا الذي عايشناه وتابعناه بشغف وبين ماكنا-ومازلنا نعهده-في المناطق الملتهبة التي ذكرتها من المظاهرات الصاخبة والعنف والصراع الدموي والإرهاب والتنكيل المتبادل بين الأطراف المتخاصمة حتي أن الأمر استدعي في جميع تلك الحالات التي تدخل المجتمع الدولي للفصل بينها وإرسال قوات لفض الاشتباكات ودخول الأمم المتحدة لتنظيم استفتاءات تقرير المصير والتي أسفرت جميعها عن الانفصال والطلاق وتأسيس دويلات جديدة صغيرة ضعيفة لكنها علي الأقل واحات آمنة لعرقيات ومجموعات بشرية فارة من الاضطهاد والبطش والتفرقة العنصرية.
إذا ليس غريبا أو مستغربا مايجري في العالم المتحضر حيث تبقيكيبيك ضمن العائلة الكندية برغبة غالبية مواطنيها وتبقي إسكتلندا ضمن العائلة البريطانية برغبة غالبية مواطنيها-ولايعد استثناء من تلك القاعدة سوي انفصال الأصدقاء الذي تم سلميا ووديا بين التشيك والسلوفاك في
تشيكوسلوفاكيا في تسعينيات القرن الماضي-بينما حالاتالطلاق خلاصا من ماض كريه وبقاء لإرث بغيض من العداء والتربص متفشية في العالم غير المتحضر نتيجة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين وانفصام الشخصية التي تتفشي عبره.
حيث تسكت شعوبه عن الظلم والقهر والفرز والتنكيل ويتشدق سياسيوه وحكامه بعدم التدخل في الشئون الداخلية لدوله وتتطاير المقولات العبثية عبر أرجائه من نوعيةسودان موحد وعراق موحدوليبيا موحدة…بينما نتعامي عن الواقع الدامي الذي يمزق تلك الدول والذي إن استمر حتما سيؤدي إلي تفتيتها وتمزيقها…ولا تقولوا مؤامرات دولية…لأنه يتم بيد أهلها!!
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها-(506)