بقلم د. عمرو الزنط
لفت نظرى تعليق للأستاذة لميس الحديدى فى إحدى مراسلاتها من مدينة نيويورك على قناة «سى. بى. سى»، فى سياق تغطية دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة. التعليق يبدو بديهيا، لكن ما يلفت النظر يكمن فيما لم تقله. ففى ختام إحدى الفقرات، حيَّت الأستاذة لميس مشاهدى البرنامج من «عاصمة المال فى العالم». هذا وصف صحيح، لكنه ينقصه شىء
لأنه، ومنذ فترة تعد بالعقود، صارت نيويورك عاصمة الثقافة والفن أيضا، فتخطت باريس مثلا بخطوات.. فرغم أن الأخيرة مازالت تستضيف تجمعا فنيا مهما وأنماطا فكرية تتميز بها (مثلا فى مجال أفكار ما بعد الحداثة فى العقود الأخيرة من القرن العشرين)، فإنها لا تستطيع أن تنافس نيويورك من حيث كم وقيمة الإنتاج الثقافى، ومن حيث عدد وقيمة الكتب المنشورة سنويا فيها، أو الثروة البشرية من الكتاب والفنانين المرموقين الذين يعيشون هناك، أو من حيث الإنتاج السينمائى المستقل عالى المستوى الفنى (وأنا أقول ذلك بالمناسبة كعاشق لباريس، وبعد مناقشات مطولة عبر السنين مع أصدقاء من المثقفين هناك!)
ربما يأتى فى ذهن القارئ على الفور أن قيمة نيويورك الثقافية هى نتيجة مباشرة لكونها «عاصمة المال»، التى من ثَمَّ يمكن أن «تشترى العقول». لكن لا يمكن إغلاق النقاش عند هذه النقطة، فحتى منتصف القرن العشرين كانت باريس هى التى تجذب الأدباء والفنانين من أمريكا وغيرها (فكر فى هيمينجواى).. ثم إن صعود نيويورك لم يأت بين يوم وليلة، فأقدم المتاحف الكبرى فيها (الميتروبوليتان مثلا) يرجع لحوالى قرن ونصف القرن من الزمن، والمدينة عاش فيها الكثير من الكتاب والفنانين المهمين منذ ذلك الحين.. حين بدأت منطقة «جرينوتش فيلاج» تزدهر كمركز للأفكار والفنون المبدعة.
عبر العقود، استوعبت المدينة خليطا بَنَّاء من «إنتاج محلى» خاص بها وأيضا من باقى الولايات المتحدة وخارجها، فى إطار اجتماعى متنوع ومنفتح، أدى إلى مناخ خلاق متنام باستمرار، المناخ الذى اجتذب المزيد من العقول المبدعة، التى أثْرَت بدورها المدينة درجات.. وهكذا، حتى صار ربما الجزء الأكبر من الإنتاج الفكرى وليد المكان وبيئته الخاصة.
لنأخذ أمثلة عابرة فى مجال الموسيقى.. لقد افتتحت قاعة كارنيجى الشهيرة (عام ١٨٩١)، فى حفل قاده المؤلف الموسيقى الروسى العظيم «تشايكوفسكى».. وقد قاد فى الماضى أوركسترا نيويورك الفيلهارمونى عظيم آخر، وهو النمساوى جوستاف ماهلر. لكن منذ حقبة قيادة ليونارد بيرنشتاين والأوركسترا يعتمد أكثر على المواهب المحلية لأمريكا عامة ونيويورك خاصة.. أما قاعة كارنيجى فهى منذ فترة تستضيف موسيقى أمريكية المولد والنمو- ومعبرة عن تاريخ البلاد المعقد، وأحيانا عن نيويورك نفسها- وهى موسيقى الجاز.
أسرد هذه الملاحظات، لأننى أعتقد أن جزءا كبيرا من تعقد العلاقة مع الولايات المتحدة يرتبط بعدم تقدير للقيمة الفكرية للثقافة الأمريكية، والذى يجعلنا نركز على كاريكاتورات الـ«كاوبوى» التافه المؤذى، أو صورة أغنياء الحرب القبيحة.. لماذا؟
بالإضافة إلى بعض سياسات أو نماذج أمريكية قد تكرس تلك النظرة، فإن انعزالنا عن تطورات الثقافة المعاصرة (منذ أن كانت باريس فعلا العاصمة الثقافية للعالم) فى أساسها.. ففى حين ازدهرت نيويورك لأنها احتفت بالتعددية الثقافية والفكرية حتى أنتجت مناخا مميزا خلاقا خاصا بها، اتجهت المدن المصرية فى اتجاه معاكس، فتكرست فيها النكسة الثقافية وخيبة الأمل والعجز، ومن ثَمَّ البحث عن متآمر قبيح- سواء كان حقيقيا يتم النفخ فى حجمه كاريكاتوريا، أم وهميا بالكامل.. لنلقى لوم تراكمات الانكسار- النابع إلى حد كبير أصلا من فقدان التواصل مع العالم المعاصر- على المجهول غير المفهوم الذى افتقدنا التواصل معه.
نقلآ عن المصري اليوم