تحولت حياة أسرة المقدم محمد محمود أبوسريع، الذى استشهد فى الانفجار الذى وقع، أمس الأول، فى محيط وزارة الخارجية، الشاهد الرئيسى فى قضية «الهروب من وادى النطرون»، المتهم فيها الرئيس المعزول محمد مرسى، إلى «كابوس بامتداد أحزانهم وحسرة قلوبهم»، منذ تلقيهم نبأ استشهاده، عن طريق الجيران.
صباح أمس الأول، كان «أولاد شهيد الغدر»، وهما «عمر»، طالب الثانوية العامة، بمدرسة مصطفى كامل، وشقيقته «ندى»، بالصف الخامس الابتدائى، ووالدتهما جيهان محمد، المدرسة، يقضون يومهم الأول الدراسى، حين جرى الانفجار بمحيط وزارة الخارجية وعلى أثره هرولوا إلى مستشفى الشرطة بالعجوزة لإلقاء نظرة الوداع على جثمان رب الأسرة، الذى طبع قبلة على جبين كل منهم قبل ذهابهم إلى مدارسهم، كأنه يعرف موعده مع القدر.
تمام الساعة ٩ صباحًا، كانت سيارة تابعة للشرطة، موديل ١٢٤ تتنظر زوجة الشهيد وابنه ونجلته، أمام العقار رقم ٥٠٤ بعمارات زهراء مدينة نصر، محل سكنهم، لتوصيلهم إلى مقر أكاديمية الشرطة بالعباسية حيث الجنازة العسكرية التى تقدمها قيادات وزارة الداخلية للمقدم الشهيد، ودفنه بمدافن العائلة القريبة من مدينة نصر.
للوهلة الأولى عند دخول الشارع تجد المحال التجارية تنبعث منها أصوات ترتيل عبدالباسط عبدالصمد، يتلو آيات من الذكر الحكيم، وكسا الحزن وجوه الجيران الذين تأهبوا للمشاركة فى الجنازة، وكلهم يرددون فى نفس واحد: «ليتنا كنا مكانه..حلم ونال الشهادة فى سبيل الله».
وأضافت أسرة الشهيد: «تمنى الشهادة كثيرا، ولم يكن ينطق بكملة عن طبيعة عملة وظروفه وملابساته، على الرغم من معرفتنا ومتابعتنا لشهاداته من خلال مطالعتنا لوسائل الإعلام بأنه شاهد رئيسى فى قضية الهروب الكبير، إبان ثورة ٢٥ يناير المتهم فيها (مرسى وأعوانه)، وعندما كنا نشد على يده ونقول له خلى بالك يا باشا من نفسك، يبتسم ولا يرد، وينظر إلى السماء، ويقول يارب نصبر وننول أعلى منازل الجنة، كما عاهدناه طيب الذكر وحسن الخلق».
وقال مصطفى هارون، صاحب محل بقالة، أسفل عقار الشهيد: «إن (أبو سريع) أخ أكبر لنا، منذ عرفناه منذ قرابة ١٥ سنة، وخدماته يحكى عنها الجميع، وبساطته وتواضعه مع الناس، وقيامه بإلقاء السلام علينا فى ذهابه وإيابه من العمل، ولم نشعر معه كأنه رجل شرطة، وكان يشترى طلبات منزله بنفسه، ويصعد بها إلى شقته بالطابق الخامس الأخير، وكان يبدو عليه حبه الشديد لأولاده وزوجته وهو هادئ بطبيعته».
وتوقف «هارون» لثوان عن حديثة، يجفف دموعه، ثم استطرد قائلاً: «لم أبك فى حياتى أحدًا، كما بكيت المقدم محمد».
رجل آخر صاحب محل بويات فى العقار المجاورة للشهيد، يدعى عربى الشرقاوى، لم يمسك أعصابه بينما يردد «منكم لله يا كفرة»، وذكر صاحب محل البويات أن الشهيد كان بطلاً، ولم يكن يخشى تهديدات الجماعة الإرهابية التى أكدها له أحد جيرانه كان قد تحدث مع المقدم منذ فترة طويلة، وقال له إنه لا يخشى فى الحق لومة لائم، وهو أدلى بشهادته فى ١٤ إبريل ٢٠١٣، وهى فترة حكم الإخوان لمصر، وحمل الرجل مسؤولية عدم تأمين الشهيد لوزارة الداخلية.
هبط «عمر»، نجل المقدم الشهيد، برفقة جدته لأمه، من منزلهم، فى انتظار باقى أفراد الأسرة، واقتربنا منه والدموع تملأ عينيه.
وقالت جدته: «فقدناه فى أشد محنتنا وحاجتنا إليه، صعب علينا قوى، وعمر مثله الأعلى فى الدنيا أبوه، الحريص على تربيته على حب الوطن، ولك أن تتخيل أن يسقط شهيدًا بطريقة غادرة، وربنا يصبر الأولاد على ما أصابهم وأصابنا فى فقدنا شهيد الحق وهم يعرفون أن والدهم شهد بالحق أمام المحكمة ضد قيادات الإخوان، وفضح جرائمهم الله يفضحهم وينتقم منهم زى ما حرقوا قلوبنا».
وتردد «عمر» فى الحديث فى بادئ الأمر، لكنه نطق بكلمات مرتجلة: «بابا مات ليه كده.. أنا مش عاوز حاجة غير حقه.. هو حقه مين يقدر يجيبه.. عاوزينى أقول إيه.. مش عندى طلبات مش بطالب بحاجة خلاص.. إحنا مش عاوزين حاجة خلاص.. ممكن نعوز إيه مثلاً، أهم حاجة كانت عندنا بابا محمد»، وبكى نجل الشهيد وهدأته جدته.
لم تكن جيهان محمد، مدرسة الثانوية العامة، تستطيع حمل قدميها، أثناء نزولها من شقتها مع ابنتها ندى، التى احتضنت والدتها بقوة، وأخذت الطفلة تواسيها «بابا شهيد»، لاستقلال السيارة التى تنطلق إلى مقر تشييع جنازة زوجها من أكاديمية الشرطة.
تقول: «لم أتصور تلك اللحظة فى حياتى، ما أحزنى موتة بالغدر والخيانة، لكن الشهيد عاش بطلاً واستشهد بطلا، لم يكتم شهادة أو يحرفها زورًا وأطلق لسانه بالحق وأدلى بشهادته أمام محكمة الجنايات فى قضية الهروب من سجن وادى النطرون بما أملاه عليه ضميره، وتحدث بأنه أثناء مباشرة عمله كرئيس مباحث سابق».
ورددت باكية: «حسبى الله ونعم الوكيل فى الإخوان الكفار مصاصين الدم.. وربنا ينتقم منهم وياخدهم ويحرق قلوبهم زى ما موتونا بالحيا».