فى الشارع حين تعبر بنا السيارات الخاصة وسيارات الأجرة وسيارات النقل والأوتوبيسات التابعة للحكومة، فنرى على زجاجها الخلفى هذه السيوف المسلولة وفوقها شهادة لا إله إلا الله، محمد رسول الله- ما الذى تستدعيه فى ذاكرتنا هذه السيوف؟
إنها تستدعى صوراً مختلفة من الماضى والحاضر. تستدعى صورة العلم السعودى الذى يبدو كأنها منقولة عنه. وتستدعى أيضاً صورة ضرب العنق بالسيف أو الذبح بالسكين على الطريقة التى تتبعها داعش وتقصد بها إرهاب الذين يشاهدونها على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد فى أنحاء العالم وبث الرعب فى نفوسهم، لأن ذبح البشر بالسكاكين عملية مرعبة، ولأن داعش تؤدى هذه العملية المرعبة وكأنها تؤدى فرضاً دينياً أو شعيرة من الشعائر لا تحتكم فى أدائها لقانون بشرى. هكذا يظهر الضحية راكعاً مستسلماً وبجانبه يقف جلاده بقميص أسود ولثام أسود وطاقية سوداء قابضا على السكين التى سيذبح بها المحكوم عليه بالموت لا لجريمة ارتكبها، وإنما لأنه ينتمى فقط لدين آخر أو يحمل جنسية أجنبية، صورة رأيناها للصحفى الأمريكى ورأيناها للعامل البريطانى قبل إعدامهما بهذه الطريقة التى تحرص داعش على تصويرها وإذاعتها ونشرها بمختلف صور الإذاعة والنشر. وكما أن راية «القاعدة» السوداء وجدت من يحملونها من المصريين فى ميدان التحرير خلال السنة السوداء التى استولى فيها الإخوان الإرهابيون وحلفاؤهم السلفيون على السلطة وجدت طريقة داعش فى إعدام خصومها من يقلدونها فى سيناء. فقد ذبح الإرهابيون تسعة من أبنائها خلال الأسابيع الأخيرة. وداعش إذن ليست بعيدة عن مصر!
نعم! داعش ليست بعيدة عن مصر. فالسيارات الخاصة والعامة تملأ شوارع القاهرة ذاهبة- آيبة تحمل شعار داعش الذى تخيرك فيه بين أن تكون مع دولتها الإسلامية أو يضرب عنقك بالسيف. لاحظ أن السيف أيضاً هو شعار الإخوان، ولكنه عند الإخوان سيفان متقاطعان.
ولقد يرى البعض أنى أبالغ أو أحمل الأمور ما لا تحتمل حين أقول إن السيوف المرسومة على زجاج السيارات المصرية تذكر بداعش وتجعلها حاضرة فى الشارع المصرى. لكنى لا أبالغ ولا أخترع، وإنما أشير إلى سلاح من الأسلحة التى استعملتها كل المنظمات التى يقوم نشاطها على التذكير بالماضى وإثارة الحنين لأمجاده الحقيقية، والوهمية، خاصة فى أوقات الأزمات والهزائم التى يحتاج فيها الناس والشباب خاصة لملجأ عاطفى يفرون إليه ويتحررون من شعورهم بالهزيمة ويتقمصون دور الأبطال المنتصرين.
والسلاح الذى أتحدث عنه هو سلاح الرمز الذى استخدمه موسولينى فى تشكيل الجماعات الفاشية التى قادها وسماها هذا الاسم المقتبس من الكلمة الإيطالية «فاشيو» ومعناها الحزمة أو العصبة التى لم تكن الرمز الوحيد الذى استخدمه الفاشيون، وإنما كانت ضمن منظومة من الرموز المقتبسة كلها من عالم الرومان القدماء، ومنها البلطة المحاطة بالعصى وهى شعار قضاة الإمبراطورية الرومانية، ومنها الأسماء والألقاب التى كانت موجودة فى أيام الرومان كالتريبونو أى المنبر أو المنصة، والتشنتوريونى أى قائد المائة، بالإضافة طبعاً للرمز الفاشى المشهور وهو اللون الأسود، لون القمصان التى كان يرتديها الفاشيون.
هذا السلاح، سلاح الرمز استخدمته أيضاً جماعات الإسلام السياسى التى بدأت نشاطها فى سبعينيات القرن الماضى بالدعوة للحجاب والنقاب وإطلاق أسماء الصحابة وأبطال الإسلام على المساجد والشوارع والمدارس والمحال، وإحياء المفردات والألقاب التى كانت تستعمل فى الماضى الإسلامى كالأمة بالمعنى الدينى لا الوطنى، والبيعة، والشورى، والإمامة الدينية والسياسية، والإمارة. وها هى داعش تعود بناء إلى عراق السنة والشيعة- والمسلمين والذميين، وإلى ذبح الأسرى وسبى النساء وبيعهن فى الأسواق وسوى ذلك من صور التوحش التى تجد فى مصر من يصفق لها ويروجها ويعتبرها عودة جديدة للإسلام، ليس فقط فى أوساط الإخوان والسلفيين وغيرهم من جماعات الإسلام السياسى، بل حتى فى المؤسسات التابعة للدولة.
كتب الفقه المقررة على طلاب المعاهد الدينية تدور حول هذه «الإنجازات» وتستخدم هذه اللغة وتتبنى هذه الأفكار. وقد تابعت ما كانت تنشره هذه الصحيفة خلال الأسابيع الماضية تحت عنوان «كوارث أزهرية» فوجدت أنها كوارث بالفعل. وحتى كتب وزارة التربية والتعليم التى يتحدث عنها نصر حامد أبوزيد فى «نقد الخطاب الدينى» فيقول «ليس غريباً أن يتعلم أبناؤنا فى المدارس أن الإسلام يبيح امتلاك الجوارى ومعاشرتهن معاشرة جنسية. وأن هذه إحدى الطرائق فى العلاقة بالنساء إلى جانب طريقة الزواج الشرعى، مادام ذلك قد وردت به النصوص. وليس غريباً أيضاً فى ظل عبودية النصوص أن يتعلموا أن المواطن المسيحى مواطن من الدرجة الثانية يجب أن يحسن المسلم معاملته. وهكذا يتوجه الخطاب الدينى التعليمى التربوى إلى أبنائنا فيقول لهم إن عليهم فى معاملة زملائهم وأساتذتهم من الأقباط «الرفق بهم وعدم تكليفهم فوق ما يطيقون». والكاتب يحيلنا فى الهامش إلى كتاب التربية الدينية للصف الثانى الثانوى صفحة ١٠٠ وكتاب الصف الثالث الثانوى صفحة ٣١ نقلاً عن حامد عمار فى مقالة له حول الكتب المدرسية. وداعش إذن ليست بعيدة عن مصر. لأن كل ما تقوله داعش يجد فى مصر من يردده وحتى من يعمل به!
داعش ترفع راية الخلافة وتسعى لإحيائها. وأنا لم أسمع حتى الآن صوتاً يعلن أن زمن الخلافة انتهى إلى غير رجعة، لأن الدول الدينية لم يعد لها مكان فى هذا العصر الحديث الذى جعل السلطة لصاحب المصلحة فى قيامها وهو الشعب، لا لرجال الدين. فالدولة الحديثة دولة وطنية، أى دولة ديمقراطية. لم أسمع صوتاً يتبنى هذا الموقف ويعلن انتهاء عصر الخلافة، لا من جماعات الإسلام السياسى التى لا ينتظر منها أن تكون ضد الخلافة أو ضد الدولة الدينية عامة، ولا من الأزهر الذى نعلم أنه ليس رأياً واحداً. ففيه العلماء المستنيرون، وفيه الرجعيون، وفيه من يكونون اليوم هنا ويكونون غداً هناك. وإذا كانت مبادرات الدكتور أحمد الطيب التى وقف فيها إلى جانب الديمقراطية تجعله نصيراً للدولة الوطنية ولحرية التفكير والتعبير، فالذين يعادون الديمقراطية من رجال الأزهر ويعادون حرية الرأى ويتقربون للعوام بمهاجمة الكتاب والفنانين وشن الحملات عليهم ليسوا قليلين، وهم يتزايدون فى هذه الأيام لأنهم يعرفون أن الدولة فى حاجة لمن يقف معها ضد الإخوان دون أن يتهم بالتهاون فى الدفاع عما يسمونه الثوابت فهم يعوضون وقوفهم إلى جانب السلطة بالتشدد مع الكتاب والفنانين. هكذا رأيناهم يشنون الحملة تلو الأخرى على الروائيين والسينمائيين ومقدمى البرامج الفنية. لكننا لم نر لهؤلاء موقفاً ولم نسمع لهم كلمة يطوون فيها صفحة الخلافة التى تسعى داعش لإحيائها فى هذه الأيام.
ولقد تبنى الأزهر فى عشرينيات القرن الماضى الدعوة لنقل الخلافة إلى مصر بعد أن ألغاها كمال أتاتورك فى تركيا ولتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين. وهو موقف لن يغفره التاريخ لمن قاموا به، لأنه لم يكن من الإسلام فى شىء وإنما كان موقفاً سياسياً انحاز فيه رجال الأزهر آنذاك للملك المستبد وتخلوا عن الشعب الذى ثار بقيادة سعد زغلول وزملائه دفاعاً عن الدولة الوطنية وعن الديمقراطية وحكم الدستور.
ومع أن محاولة الأزهر لنقل الخلافة إلى مصر فشلت لأن زمن الخلافة انتهى ومر على فشلها ما يقرب من قرن، فالأزهر لم يراجع هذا الموقف الرجعى حتى الآن. وفى لقاء حضرته فى مشيخة الأزهر مع الدكتور الطيب ومع عدد من المثقفين المصريين قبل عامين اقترحت عليه وعلى الحاضرين أن ينظر الأزهر فى هذا التاريخ ويراجع هذا الموقف ويعيد الاعتبار للمثقفين المصريين الذين أوذوا على أيدى شيوخه السابقين ومنهم على عبدالرازق وطه حسين، لكن الاقتراح لم يجد من يتحمس له، بل صدرت مجلة «الأزهر» ومعها الرسالة التى كتبها الشيخ التونسى الخضر حسين فى الدفاع عن الخلافة وتزكية الملك فؤاد والهجوم على الشيخ على عبدالرازق وسماها «ضلالة فصل الدين عن السياسة».
فإذا كان هذا هو موقف الأزهر حتى الآن من الخلافة، وإذا كانت سيوف داعش ستظل مرسومة على زجاج سياراتنا، وإذا كان برنامجها السياسى سيظل مقرراً على تلاميذنا فداعش ليست بعيدة عن مصر. ونحن لن نتغلب على داعش إلا إذا مسحنا هذه الصور، وتخلصنا من هذه الكتب، وفصلنا بين الدين والسياسة، وراجعنا مواقفنا من هذا التاريخ.
نقلا عن المصري اليوم