الأقباط متحدون - «وحشتنى يا جزمة»!
أخر تحديث ٠٨:٠٧ | السبت ١٣ سبتمبر ٢٠١٤ | توت ١٧٣١ ش ٣ | العدد ٣٣٢٠ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

«وحشتنى يا جزمة»!

مفيد فوزي
مفيد فوزي

أعتذر بشدة عن عنوان المقال مهما تصاعدت منه أبخرة الشوق للطير المهاجر، وتفوهت به ألسنة الهزار. هاجس الاعتذار أنه لا يجوز ولو من باب الدعابة أن نقرن الأشواق بالجزم، لكنه جائز فيما يبدو - فى زمن تساوت فيه مشاعر البشر مع الجزم. ولماذا أتأسف ونص العبارة سمعته الملايين (صوت وصورة) فى أحد المسلسلات الشهيرة فى رمضان الماضى. صحيح انتهت حلقات المسلسل ولكن توابعه لم تنته فى (أذهان الأطفال). علميا: مخ الطفل شاشة متلقية لكل ما يسمع أو يرى. وعلميا: يستجيب الطفل مع أحداث المسلسل ويتفاعل معه ويتشابك. وعلميا: التقليد رافد الطفل الأعظم للمعرفة والسلوكيات. التقليد علميا هو (العطف الابتدائى السلبى)، وتقليد الأطفال للكبار يضعهم فى مرتبة الكبار، حتى لو كان ترديدا لعبارات سوقية من أبطال مسلسل، باعتبار أن التليفزيون - شئنا أم أبينا - هو (ثالث الأبوين).

لذلك، لم يكن مفاجئا لى وأنا أزور أسرة أن أسمع طفلا فى الخامسة يقول لأبيه (وحشتنى يا جزمة) وبين ضحكات الأب والأم، جاء صوتى مقترنا بنظرة للولد: عيب كده! فما كان من الطفل إلا أن زمجر فى وجهى وبكى بشدة مما أشعرنى بحرج بالغ. وجاملنى الأب بقوله (عموما ما يقصدش يزعلك يا حبيبى) وكانت المفاجأة الثانية أن الطفل - بعناد طفولى - أعاد عبارة (وحشتنى يا جزمة) ولحظتها احتضنه الأب، بينما «وجمت» الأم ولم تنطق بكلمة. أتذكر عندما كنت أسجل (حديث المدينة) من استديو الشارع على مدى عشرين عاما أن قابلت أمهات جاهلات، يقلن لأطفالهن (تف على أبوك يا واد)! فيخرج الطفل رذاذا من فمه و(تسخسخ) العيلة ضحكا! أتذكر - بالمناسبة - كلمة لاتزال عالقة بذهنى من أحد مسلسلات الإذاعة فى فجر مشوارى، وهى (يا همبكة) جاءت على لسان الراحل القدير توفيق الدقن. وكنت أراها تعبيرا عن أحوالنا، وصرنا نستخدمها فى وصف مواقف كثيرة فى أحوالنا ولغتنا اليومية. كان هذا حال الدراما أمس. وهناك أعمال أسامة أنور عكاشة ولينين الرملى، ولم تخدش الحياء مطلقا. ودراما هذا الزمان تستحق وقفة بل وقفات بين زحام الحياة. مثلا (هناك أمثلة من مسلسل شهير ارتفعت نسبة مشاهدته ولا أجرؤ على كتابة نصوصها) وكأن كتاب الدراما قد اسقطوا من حسابهم شريحة مهمة اسمها الأطفال، وأهمية (اختراع) اسمه القدوة!! وفى نفس السياق يعترف أعرابى (كان أبى يصلى فلا يبقى أحد فى دارنا إلا وصلى حتى جارية لنا سوداء)!

يرى البعض أن ما أكتبه (حذلقة) والرد عليهم، أنها (تربية). يقول البعض إنها (واقعية) والرد عليهم أنها (وقعة سودة). يقول البعض إنه (هزار) والرد عليهم أنه (هباب). يقول البعض بلغة العصر (ما تأفورش الأمور) والرد عليهم (أنها الحقيقة فى حجمها الحقيقى)، فالقدوة فى بيوتنا شبه غائبة. هنا يحضرنى بيت شعر لأمير الشعراء يقول: «ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة فخلفاه ذليلا.. إن اليتيم هو الذى تلقى له أما تخلت أو أبا مشغولا». إنى أكاد أجزم أن (الإشراف العائلى) على ما يراه أطفالنا على الشاشات غير قائم، بل إن البيت المصرى قد يترك الأولاد أمام التليفزيون ليتخلصوا من همومهم ومشاكساتهم!

فى رأسى كلام مهم سمعته من المربى المفكر سلامة موسى حين يتعرض للقدوة، قاعدة التربية. يقول: (من الضرورى على المربى عرض أفضل القيم لمن نربيهم.. فالقدوة الحسنة هى مطابقة القول للفعل، لأن أعين الصبيان ناظرة وشاخصة لسلوك الكبار، وآذانهم مصغية، فما استحسنوه صار لديهم الحسن وما استقبحوه صار هو القبيح). هل يتصور أحد فى زمان سلامة موسى أن يقول الأب لابنه (وحشتنى يا جزمة)، كما جاء فى المسلسل (!)؟ وأن يحفظها الأطفال فيرددوها؟! فى وقت ما، قلدت فتيات مصر الصغيرات.. الراقصات الشرقيات الشهيرات عندما دخل التليفزيون حياتنا. إنه سلوكيات التقليد ولسنا بمعزل عن العالم، فالدنيا تموج بآلاف التيارات والحركات، خصوصا بعد لعنة التكنولوجيا التى اختصرت نظرات العيون وارتعاشة الشفاه وشوق الأصابع إلى رسالة جافة (s.m.s). لقد صار (الفيس بوك) يعرض حياتنا كأننا نسكن فى بيوت مكشوفة من زجاج! ولست أصب اللعنة على الفيس بوك إلا من ازدرائى لتدنى (التواصل الاجتماعى) بسافل الكلام. إنه فى حقيقة الأمر (تنصل اجتماعى) من القيم والمبادئ. فى جيلى - مثلا - كانت الكلمة الخارجة يطلق عليها «الفحشاء»، أما الآن فالفحشاء فى الفيس بوك والتليفزيون والشوارع والحارات والمنتديات والألتراس! فى جيلى كان المعلم (قدوة) وكنا نهابه ونخشاه ونتحاشى غضبه. أما اليوم فـ.. (الرفد للجدعان) وأولياء الأمور يضربون المدرسين و(الغش بالبلوتوث) وسعد الصغير هو (الغناء الشعبى) وما أدراك ما مأثوراته! إن السياسة (سرقت) منا حياتنا وجعلتنا مومياوات آدمية سرقت طفولة أولادنا وأحفادنا. نحن لسنا فى حاجة إلى تعليم بأسلوب (حشو) العقول وامتحانات ذات رهبة وثانوية عامة بعبع ومستقبل يضيع بسبب نص نمرة فى التنسيق. نحن فى حاجة إلى (تربية دينية سليمة) و(تربية ضمائر) و(نشاط عضلى يطارد الخمول) و(علوم مناهج محببة) ذات (أغلفة جذابة). نحن فى حاجة إلى التوقف عند (مدرس) الحضانة والروضة. فى موسكو رأيت مدرس الحضانة يحمل دكتوراة، وعندنا (أى ست طيبة تقوم بالمهمة). فى هولندا رأيتهم يكتشفون مواهب الأطفال من خلال اللعب بالمكعبات الخشبية. فى مدارس الأردن لا يوجد مدرس غير تربوى فى مدارس الراهبات أينما كانت. يتعرض الطفل (للتذنيب)، أى عقابه على كلمة عيب تصدر منه. وربما تستدعى أسرته للتفاهم. ورغم كل هذا قد تتسلل الدراما بجاذبيتها بغليظ الكلام إلى الأذن والعين. (مين ابن المرة اللى جايب سيرتى؟!!) لست أريد أن أبدو واعظا فى علم التربية، لأن التجربة العملية لأحوال المجتمع الآن قلبت المائدة على النظريات السائدة، مما يستدعى التوقف عند الظواهر الجديدة. هناك عشرات بل مئات البحوث الاجتماعية والنفسية تصب فى قضية (تقليد) الصغار للكبار وغياب (القدوة)، أو السلوك الأفضل قولا وعملا. لننظر بعيدا للعالم لنتدبر ونفهم مدى (جرعة التربية) وكيف تفوق (جرعة التعليم)، بجسم سليم ونشاط ذهنى وتغذية حقيقية وتربية وجدان وتذوق للجمال ثم تدريب الطفل على التفكير أود (لو ننسف حمامنا القديم) فى التربية ونحن نبنى الآن (قواعد المجد) أريد مدرسة صحية لائقة ومعلما لائقا، وقبل هذا وذاك أقف عند صيحة عالم نفسى عربى د. وليد حسان (الأولى بالتربية الآباء والأمهات). إنها صيحة خطيرة تؤكد انشغال الآباء عن الأولاد ليصبحوا فريسة لأى خطر! وصدقت فتاة صعيدية عندما سألتها مرة عن أسرتها فقالت: (عايشين، أبويا وأمى واتنين إخواتى والتليفزيون واللاب توب)! تغيرت الدنيا وصارت (خلطبيطة).

جميل ورائع أن يقام مؤتمر اقتصادى يجمع خبراء الاقتصاد ورجال المال والأعمال يحدد ملامح «رخاء» الزمن القادم، وإن تمنيت أن يكون خاليا من الخطابات الإنشائية واستعراض الذات ويقتصر على الأرقام وتجارب الشعوب، تمنيت أن أسمع من خبير اقتصادى تجربة ماليزيا الاقتصادية أو تجربة البرازيل. ولكن ليس بالاقتصاد وحده تقوم الأمم، إنما بالإنسان نفسه فى منظومة قيم. لهذا أدعو إلى (مؤتمر لعلماء الإنسانيات) فى علم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع لمناقشة سلوكيات هذا الزمان. صحيح أن التدنى الأخلاقى قضية معنوية تحتاج لزمن لنعود إلى ما كنا عليه من قيم وآداب. أعلم هذا جيدا ولكن من المهم أن نسلط الضوء على هذه (العورة) ونعرف آفاتها وأطرافها: بيت ومدرسة وشارع وجامع وكنيسة وناد ومسرح وسينما وتليفزيون وإذاعة. لابد أن ننشغل بما طرأ على المجتمع من تغييرات للأسوأ. ولست متشائما من الصورة، لكنى لا أخفى انزعاجى لعل المؤتمر المرتقب - إذا راقت الفكرة لأصحاب القرار - يحدد بنوده (معلم لائق ملو هدومه) + (دراما بلا استغراق فى واقعية أخلاق العشوائيات وغرز الحشيش وبذاءات ما وراء قضبان سجون النساء) + (بيت مصرى معنى بأولاده) + (تفعيل دور المؤسسات الدينية). أحلم بحرث تربة المجتمع. ونثر بذور جديدة نحصدها بعد قليل وقد صارت سنابل خير.

نقلا عن المصري اليوم
 


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع