بقلم - يوسف سيدهم
الساحل الشمالي يمر الآن بمرحلة الاستعداد لموسم البيات الشتوي وهو موسم يمتد بين ستة وثمانية شهور حسب طبيعة المكان ونوعية شاغليه, فكلما بعد المكان عن المدن والعمران كانت قابلية الشاغلين للذهاب إليه أقل وأصعب, وكلما ارتبطت نوعية الشاغلين بمراحل الدراسة للأبناء كانت قدرتهم عل قضاء فترات الإجازات محدودة.. لذلك من كان في الساحل الشمالي حتي الأسبوع الماضي بالقطع عايش المشاهد الحزينة لمظاهر نهاية موسم الصيف, حيث الصخب يخفت والازدحام يتلاشي والوحدات السكنية تفقد رونقها الخارجي وتكتسي فتحاتها بأغطية الحماية الشتوية معلنة هجرة أصحابها, وقوافل السيارات المغادرة تتفوق علي السيارات الفرادي القادمة.
تلك المشاهد باتت مألوفة يعرفها كل من تردد علي القري والتجمعات السياحية للساحل الشمالي, وهي مشاهد تثير الأسي والحسرة خاصة عندما تقترن بإغلاق الخدمات التجارية والترفيهية أبوابها عندما يضمحل الطلب عليها, وبذلك يتحول المكان إلي ما يشبه مدن الأشباح موحش لا حياة فيه, طارد لأي شخص يفكر في التردد عليه.. وهنا يبدأ موسم البيات الشتوي الذي يشعر بوطأته وكآبته كل من شاءت ظروفه أن يتحرك علي طريق الساحل الشمالي في الفترة من أكتوبر إلي مايو من العام التالي.
هذا الوضع الذي يحكم الساحل الشمالي يثير مشاعر متباينة, فملاك الوحدات السكنية في القري والمنتجعات يزهون بملكياتهم ولا يعبأون باقتصار فترات استخدامهم لها علي نصف العام -وعلي فترات متقطعة لا تتجاوز الأشهر الثلاثة في مجموعها علي أفضل تقدير- بينما المهمومون بأمور الاستثمار والاقتصاد والسياحة يرون أن ذلك الوضع يعد فشلا ذريعا بجميع المقاييس وأنه يصل إلي حد السفه في إهدار الموارد الطبيعية والعمرانية والاقتصادية للمنطقة في ملكيات خاصة تتنافي مع الاستثمار الأمثل لها.
ذلك هو ما سبق أن تناولته في ملف الأمور المسكوت عنها عندما قارنت بين فكر السياحة.. وفكر المقاولين مستعرضا بالتحليل الفارق بين تنمية جنوب سيناء والبحر الأحمر وبين تنمية الساحل الشمالي, فها نحن أمام تجربتين متباينتين في بلادنا إحداهما عنيت بخلق أصول استثمارية متجددة لا تنضب وتستمر تنمو وتوفر فرص عمل دائمة و تحقق عوائد متلاحقة للدخل القومي -ذلك في جنوب سيناء والبحر والأحمر- حيث ساد فكر السياحة, بينما الأخري عنيت بخلق أصول استثمارية ثابتة تباع مرة واحدة وتتجمد بعد ذلك في قوالب الملكيات الخاصة ولا تحتاج سوي خدمات وعمالة موسمية مؤقتة ولا تدر عائدا متجددا علي رأس المال ولا تمثل قيمة مضافة للدخل القومي- وذلك في الساحل الشمالي.
والحقيقة أن هذا التناقض بين فكر السياحة وبين فكر المقاولين لم يكن بعيدا عن إدراك الكثيرين, لكن بالرغم من تكرار الحديث عنه -مثله مثل الكثير من مشاكلنا- لم يجد نصيبه من التصحيح أو المراجعة في سياسات الدولة وظل يشكل واحدة من المفارقات العجيبة.. فكيف يستقيم أن تطبق الدولة سياسات تنموية طموحة في الساحل الشرقي بينما تستسلم الدولة ذاتها لسياسات عقيمة جامدة في الساحل الشمالي؟!!..
ومع شدة عجبي من هذا الواقع لم أجد له تفسيرا سوي أن مهندس تنمية الساحل الشرقي كان اقتصاديا مؤمنا بالفكر السياحي بينما مهندس الساحل الشمالي كان مخططا مهموما بالإنشاء والتعمير.. وذلك أمر عجيب طريف أشبه بالأب الذي يوزع ثروته علي أبنائه الاثنين فيذهب أحدهما ليحول نصيبه إلي ثروة متجددة باستثماره وتشغيله بينما يذهب الآخر ويدفن نصيبه في الأرض ليحافظ عليه من الخسارة أو الضياع!!
وسبق أن شغل البعض بأمر تصحيح الواقع المريض للساحل الشمالي, حيث أدركوا أن المعجزة الاقتصادية التي تحققت في الساحل الشرقي اعتمدت علي تشريعات بعيدة النظر تقضي بتخصيص الأراضي للمستثمرين -وليس بيعها- لفترة محددة لضمان الجدية في تنفيذ المشروع وهذا في حد ذاته حال دون ترك الأرض خالية دون استثمار لسنوات طوال كما هو الحال في الساحل الشمالي
أيضا اشتراط الطبيعة الفندقية الغالبة علي وحدات المشروع ووضع حد أقصي لا يتجاوز 20% من الطاقة الاستيعابية لوحدات المشروع المصرح ببيعها للتمليك.. لكن كان الوقت فات علي التصحيح واقتصر الأمر علي محاولات يائسة لإنشاء بعض الفنادق في بعض منتجعات الساحل الشمالي بقيت كجزر معزولة تجاهد لتوفير حركة مستمرة علي استحياء وسط غابة مترامية الأطراف من الكتل الخرسانية الصماء المهجورة من أصحابها معظم الوقت!!
الآن.. وأخيرا.. يبدو أن الدولة أدركت فداحة ما ارتكبته سياسياتها في الساحل الشمالي.. وبدأنا نسمع عن خطوات وسياسات جديدة تنبئ بتصحيح المسار في القطاع غير المستغل والممتد غرب العلمين حتي السلوم, وهذا تغيير جذري يثير حماس المعنيين بالتنمية السياحية كما يسيل لعاب المستثمرين المؤمنين بالاستثمار طويل الأجل, بالإضافة إلي أنه يعد بإمكانيات غير محدودة في إطار تنمية مجتمعات محلية مستقرة كظهير للتنمية السياحية توفر الخدمات وتستفيد من فرص العمل التي تفرزها التنمية السياحية المستدامة..
وفوق هذا وذاك يتحقق الاستثمار الأمثل للموارد الطبيعية للساحل الشمالي من شواطئ رائعة وطبيعة جاذبة ومناخ مستقر طوال العام.. وهذا إذا تم بنجاح من شأنه أن ينقلنا إلي مرحلة متقدمة من الاستثمار السياحي سبقتنا إليها معظم دول حوض البحر المتوسط وهي سياحة اليخوت وهي عندما تكون شواطئنا ومنتجعاتنا السياحية نشطة ومفعمة بالحياة ومجهزة بالمرافئ اللازمة لرسو وإبحار وخدمة اليخوت فتصبح جاذبة لذلك النوع من السياح.