بقلم: د. أحمد الخميسي
لم أكن أعتزم الكتابة عن نجيب محفوظ في ذكرى رحيله الثامنة بعد أن تشبعت وسائل الإعلام بسيرته، لكن أحدهم استشهد - في برنامج تلفزيوني- بعبارة الناقد غالي شكري" محفوظ أشجع فنان وأجبن إنسان".
وإذا نحيت جانبا ما في العبارة من استسهال القسوة في الحكم على أديب عظيم، سيبقى التساؤل عن ذلك التناقض الصارخ بين ما كان محفوظ يسطره كل ليلة بدأب المكافحين وما كان يلتزم به نهارا خارج الأدب. في أعماله الأدبية يدعو محفوظ إلي التقدم والاستنارة وحرية المرأة والعدالة الاجتماعية والتطور والعلم واستكشاف كل مجهول، أما في حياته - خارج الرواية – فقد تفادى أي موقف يؤكد به دفاعه عن تلك القيم، بل ومضي إلي أبعد من ذلك بالإشادة بأهون إشارة تصدر عن الدولة في عموده الأسبوعي بجريدة الأهرام، وعاش حياته كلها في ظل فصام عميق بين كاتب ثائر وموظف رسمي.
أذكر ذهبت لزيارته ذات يوم في مبنى ماسبيرو. جلست معه في حجرة واسعة بنافذة تطل على النيل. كان مستشارا للإذاعة والتلفزيون ولم يكن لديه فعليا عمل يقوم به فسألته " أستاذ نجيب هل تستغل وقت الفراغ هنا في القراءة؟".
فلوح بيده نافيا بحرارة " كلا. كلا . هذا وقت الحكومة. ملك لها حتى لو كان فراغا"! وإذا كانت الثلاثية الشهيرة تصور جزءا من حياة نجيب محفوظ المبكرة كما أشار هو نفسه ذات مرة، فإن الفصام الذي عاني منه " سي السيد" الطاغية داخل بيته والراقص الطروب خارجه قد انتقل إلي نجيب محفوظ الثوري داخل روايته والمحافظ خارجها. فهل يعني ذلك أن نجيب محفوظ كان حقا " أشجع فنان وأجبن إنسان"؟. نعم هو كاتب وفنان شجاع وعظيم من دون شك.
وأكثر من كل أبناء جيله تصدى محفوظ للجانب غير الديمقراطي من ثورة يوليو في رواياته الست التي صدرت بعد الثلاثية " السمان والخريف" و" اللص والكلاب" و" ثرثرة على النيل" وغيرها، بل وأكثر من كل أبناء جيله من الأدباء تصدى محفوظ للخرافات والشعوذة وكان الوحيد بين أبناء جيله الذي تعرض لمحاولة اغتيال عام 1994. يتبقى النصف الثاني من السؤال هل كان محفوظ " أجبن إنسان"؟ كما وصفه غالي شكري وغيره بسبب مواقفه خارج الأدب المتصالحة والمتوافقة مع السلطة بل والتي تدافع عنها في أحيان كثيرة؟. لا أظن ذلك.
وفي اعتقادي أن نجيب محفوظ بكل جديته والتزامه أدرك أن الأدب بحاجة إلي تفرغ، وأن الصدام مع المجتمع سيعطل الأديب ويجرجر طاقته إلي أزقة أخرى، ومن ثم تخير محفوظ عن وعي ذلك الموقف الأقرب لطبيعته الشخصية، ليس خوفا، لكن دفاعا عن التفرغ للأدب، وليس جبنا ولكن شجاعة في الإلتزام بالإبداع الأدبي ومسئوليته. كان ذلك الفصام بين محفوظ في الأدب ومحفوظ خارج الأدب وسيلة للتفرغ للأدب، خاصة أن الكاتب الكبير كان شاهدا على التنكيل بأستاذه سلامه موسى وبغيره بسبب مواقفهم السياسية والفكرية.
أذكر أننا سألناه ذات مرة " من نصدق أستاذ نجيب؟ هل نصدق محفوظ الروائي أم محفوظ الشخصية العامة والصحفي؟". فقال " أنا في رواياتي. ابحثوا عني وعن مواقفي هناك". وستبقى روايات ذلك الكاتب العظيم، ومن دونها لم تكن مصر لتبدو لنا بهذا الثراء والجمال. وستبقى نماذجه التي قدمها" نفيسه " في بداية ونهاية، و" سي السيد" في الثلاثية"، و" زيطة " صانع العاهات في زقاق المدق ما بقيت الثقافة المصرية.