الأحد ٢٤ اغسطس ٢٠١٤ -
٠١:
٠٩ م +02:00 EET
نِيَاحَةُ القِدِّيسِ أغسطينوس
بقلم: القمص اثناسيوس جورج
فيلسوف الكنيسة اللاتينية وأبو الأدب اللاتيني المسيحي وهو أسقف هيبونا (عِنَّابة على الساحل الجزائرﻱ) منذ ۳٩٥م وحتى نياحته ٤۳٠م...
وُلد في ۳٥٤م؛ وعاش في شمال أفريقيا ثم درس في قرطاجنة ومنها سافر إلى روما وميلانو... درس البلاغة والبيان؛ وفي سني ضياعه كانت تلح عليه لهفة قلبية للمعرفة السرمدية؛ حتى إلتقى بالقديس أمبروسيوس أسقف ميلانو؛ وكان دائم الاستماع والإعجاب بعظاته الرائعة؛ والتي كانت له
بمثابة مسيرة وإشراقة لمعرفة السيد الرب؛ وهكذا وجد المفتاح لفهم الجمال والعمق الفلسفي؛ وفهم وحدة سر المسيح في التاريخ... ومضمون العلاقة بين الفلسفة والعقلانية والإيمان ب (الكلمة المتجسد)، وقد تأثر كثيرًا بالعظة على الجبل (التطويبات) وبرسائل القديس بولس الرسول... حتى نال صبغة المعمودية؛ وذهب بعدها ليستقر في هيبونا ويشيد هناك ديرًا للشركة الرهبانية؛ وهناك سِيم كاهنًا سنة ۳٩۱م... ثم رُسم أسقفًا بعد أربع سنوات ۳٩٥م.
ترك أكبر عدد من الأعمال التي كان من المستحيل أن يكتبها أي أحد في حياته؛ وكرس مواهبه الفلسفية النادرة لخدمة المسيح... وقد جاء في كتاب الاعترافات محتوى سيرته الذاتية الروحية الرائعة التي كتبها من أجل تمجيد الله ومعاملاته مع الخطاة والبعيدين... وتعتبر (اعترافات القديس أغسطينوس) هي أشهر أعماله؛ وقد حق ذلك؛ لأنها تنصبّ على سيرة حياته الباطنية وسيكولوجيتها؛ وهي تمثل رائعة من روائع العلاقة مع الله (سر الله والأنا) في ذروة روحية.
تعلم الكثير من صبر ودموع أمه حتى سُمي ابن الدموع؛ إذ أن الله استمع إلى أنينها ودموعها حتى لا يهلك ابن الدموع... وتعلم الكثير على يد القديس أمبروسيوس أسقف ميلان، ولأن العمق ينادﻱ عمقًا فقد دعاه الله ليكون مختاره؛ لكنه رأى أن الدعوة للأسقفية عبء عسير لا يستطيع
حمله؛ لأن العبرة ليست بعدد الوزنات؛ لكن فيمن تاجر بها وربح... وأنه سيقدم حسابًا عسيرًا عن أسقفيته وعن دماء رعيته... لهذا قرر أن لا تغويه الكرامة التي ستأتي عليه من جرائها؛ كي يكون مثمرًا لحساب الخلاص الذﻱ يأتي لرعيته عن طريقه؛ حاسبًا أنه لن يخلص بدون رعيته... معتبرًا أنهم شهوته وكرامته ومجده وفرحه وثروته، لذا كان يستغيث بهم من أجل الصلاة ليقويه الله ويعينه لحمل مسئوليته الرعوية؛ لأنهم فيما
يصلون من أجله؛ إنما هم يصلون من أجل أنفسهم... أحمال الأسقفية كانت ترعبه؛ معتبرًا أنه أسقف عند الله من أجل الرعية؛ لكنه معهم كمسيحي... الأسقفية عبء وتكليف؛ أما كونه مسيحيًا فهذا اسم فخر ونعمة... لقب الأسقف يعرضه للخطر؛ أما اسم المسيح يقوده للخلاص؛ لكنه أكد بأن دم المسيح الفادﻱ يهدئ من روع فكره وسط بحر الخدمة التي تتقاذفه والتي لا حدود لها... إن سروره في كونه محسوبًا ضمن المؤمنين
والمفديين أكثر من سروره بالرئاسة؛ لأنه خادم بالكلية ومَدين للنعمة الثمينة التي حظي بها؛ وبالمعونة الإلهية سوف يوفي هذه الخدمة حقها؛ ويقود القطيع إلى المراعي؛ لا بإستحقاقاته هو؛ بل بنعمة الله العاملة فيه.
تحلّى بالنسك والفضيلة وعاش أسقفيته كزُهاد الله، فكانت مقتنياته متواضعة لكنها كافية... لم تكن ثمينة ولا متهرئة؛ لأنه انتهج الطريق الوسط... وكان ينفق على المعوزين والغرباء؛ لكنه أيضًا لم يربك نفسه بممتلكات الكنيسة وتنظيمها؛ إذ كان سرعان ما يعطي الأولوية للاهتمامات الروحية
والرعوية، وكان يفحص المنازعات بصبر؛ يمنعه أحيانًا من ميعاد الطعام، مراعيًا خلاص النفس ونموها الروحي، حتى أنه كتب على مائدة الشركة في دار أسقفيته (الذﻱ يشوّه سُمعة أحد غائب؛ ينبغي أن لا يشارك في هذه المائدة) كي يعالج رداءة الطبيعة البشرية ويمنع الدينونة والثرثرة.
مثاليًا في رعايته؛ لا يكل في التعليم والوعظ وتأهيل الاكليروس وتدبير الأديرة وبيوت العذارى وفي مساعدة الفقراء والأيتام... فصار أحد أهم آباء الكنيسة في زمانه، وكان له تأثير كبير في قيادة الكنيسة الجامعة، وبشكل عام لمسيحية عصره؛ مدافعًا عن الإيمان ضد الهرطقات (المانوية
والدوناتية والبلاجية)... فكان كمصباح على منارة يضيء لكل من في البيت... وفي تواضعه كتب في أحد رسائله للعلامة جيروم (أتوسل إليك أن تصحح لي أخطائي بلا تردد عندما تراني محتاجًا إلى ذلك)... فقد عاش بقلب تلميذ؛ ملاحظًا نفسه والتعليم. هذا وقد طلب أن تُكتب أمام فراشه
مزامير التوبة بأحرف كبيرة؛ وتُلصق على الحائط؛ لكي يراها ويصليها في أواخر أيام حياته التي انقضت في ۲٨ أغسطس سنة ٤۳٠م؛ وقد بلغ تقريبًا ال ٧٦ سنة.
قدم في السنوات الأربع الأخيرة من حياته أعمالاً فكرية خارقة؛ وأعاد مراجعة مؤلفاته... محصها وصحح بعض ما فيها (المراجعات / الاستدراكات) وقام بنقاشات عامة مع الهراطقة؛ ساعيًا إلى الحوار والإقناع وإلى نشر السلام في الأقاليم الأفريقية التي تحاصرها قبائل برابرة
الجنوب؛ لأنه يرى أن قتل الحرب يكون بالكلمة؛ بدلاً من قتل البشر بحد السيف... وأن الحصول على السلام يكون بصون السلام؛ لا بالحروب وسفك الدماء... لذا كانت دموعه هي خبزه ليلاً ونهارًا؛ باكيًا من أجل سيرته الأولى ومن أجل شيخوخة العالم الذﻱ شاخ بالحروب والخراب
والتشريد؛ مشجعًا رعيته أن يكونوا شبابًا؛ لأن المسيح الشاب الذﻱ فيهم لن يشيخ إلى الأبد؛ وهو الذﻱ سيجدد مثل النسر شبابهم؛ مهما كان سواد اليأس والهول المحيط.
عرف الإله الحق المعطي الحياة؛ إذ لم تقف دراسته عند مجرد افتراضات؛ لكنه أوضح علاقة الإيمان بالعقل كموضوع مركزﻱ لتوازن كل كائن بشرﻱ ومصيره، فلا يمكن التفريق بين هذين البعدين؛ فلا تضاد بين الإيمان والعقل، بل ويجب أن يسيرا دومًا سوية؛ لأن الإيمان والعقل هما
القوتان اللتان تحملاننا إلى المعرفة؛ وفقًا للصيغة الأغسطينية المنسجمة (آمِنْ لكي تفهم) و (افهمْ لكي تؤمن)... فالإيمان ليس ضد العقل لكنه أرقى وأسمى؛ وهو الذﻱ يفتح الطريق لعبور عتبة الحق... الله ليس بعيدًا عن عقلنا أو عن حياتنا؛ فهو الكلمة (اللوغوس) وهو الحياة... لهذا قال قولته
المشهورة (تأخرتُ كثيرًا في حبك أيها الجمال الأعظم والفائق في القِدَم... كنتُ أبحث عنك خارجي؛ لكنني وجدتك داخلي وفي صميمي)... وقد أنعم الله عليه بومضات إلهية؛ وتفتحت عينا نفسه على رؤية المثال الأعظم؛ عندما استُعلن له الحق بقوة اتساع وحيوية في توبته وتجديده بالمعمودية، وقد سمَّى الفعل الإلهي (بالدفقة الإلهية).
وُضعت كتاباته في لائحة أعمال سيرته؛ وقد حوت كتابات تفسيرية وعقيدية وأخلاقية ودفاعية ورسائل وعظات... إضافة إلى الاعترافات التي كتب فيها سيرته الذاتية الخصوصية؛ كإعتراف شخصي مجّد به الله في مسيرة فعلية تبقى نموذجًا ومثالاً لكل أحد؛ والتي أتى فيها على ذكر تأثير سيرة
القديس أنطونيوس الكبير على فكره؛ حتى كرس حياته للمسيح كليًا عندما قال (أنت هديت كينونتي يا الله)... وهي رحلة بحث دؤوب؛ سرد فيها سيرته بالإضافة إلى مراجعاته... كذلك اشتهر كتابه (مدينة الله) كعمل حاسم في تطور الفكر السياسي الغربي؛ واللاهوت المسيحي في التاريخ؛ والذﻱ تضمن إثني وعشرين كتابًا.
إنه أحد أكبر أبرز مفكرﻱ المسيحية؛ وقد دخل فكره اللاهوتي العظيم إلى الكنيسة في المسكونة كلها؛ وسيبقى حيًا عند إله الأحياء؛ نتعلم من سيرته وأقواله العسلية؛ ونتشفع به عند مخلصنا محب البشر الصالح.