بقلم د. سعد الدين إبراهيم
رُوّعت قريتى، بدّين، مركز المنصورة، بمحافظة الدقهلية، بوفاة ثلاثة من شبابها غرقاً، فى ثالث أيام عيد الفطر المُبارك (للعام ١٤٣٥ هجرية)، منهم اثنان من أقربائى، فى عائلتنا المُمتدة. لذلك، فرغم مرضى، فقد تحاملت على نفسى، وتوجهت إلى القرية لتأدية واجب العزاء.
ولأن الحادث كان جماعياً، وفى أيام العيد، ولثلاثة من الشباب، فقد كانت غلالة من الحزن الكثيف، تلف أبناء قريتى، وكل القُرى المُجاورة (شُبرا ـ الدنابيق ـ ميت على ـ طناح ـ محلة الدمنة ـ وسلامون القماش). كما لفت الحادث اهتمام وسائل الإعلام القومية.
وفى أصونة العزاء، التى أصرت على إقامتها كل أسرة من عائلات الضحايا على حدة، سمعت قصصاً وروايات مختلفة، وبتفصيلات اختلطت فيها الحقائق بالخيال. ولكنها فى جوهرها، تُعيد إلى الذاكرة قصة الراحل المُبدع الكبير يحيى حقى، المعروفة لجيلين سابقين بعنوان «قنديل أم هاشم».
فما هى قصة قنديل أم هاشم، وما هى علاقتها بمأساة قريتى فى الدقهلية، بعد أكثر من نصف قرن من تأليف يحيى حقى لتلك الرائعة؟ حكاية قنديل أم هاشم، هى حكاية سُكان أحد أزقة حى السيدة زينب بالقاهرة، الذين كانوا يعتقدون اعتقاداً جازماً، أن زيت قنديل أم هاشم، هو الدواء العليل لأمراض أطفالهم. وعبثاً حاول أحد أبناء تلك الحارة، الذى كان قد تعلم الطب فى إنجلترا، إقناع سُكان الحارة، بأن زيت قنديل أم هاشم، هو خُرافة، ولا علاقة لذلك الزيت الرخيص بعلاج أى مرض. نعم، ظل أبناء الحارة يُصدقون تلك الخُرافة، ويُكذبون ادعاءات ابنهم الطبيب، العائد من إنجلترا وعِلمه الحديث!
وفحوى القصة التى حاز عليها يحيى حقى جوائز عديدة، مصرياً وعربياً وعالمياً، هى قوة الخُرافة، والحماقة، فى الثقافة الشعبية، والتى ينطبق عليها قول الشاعر: لكل داء دواء... إلا الحماقة أعيت من يُداويها.
وبعد أكثر من خمسين عاماُ من رائعة يحيى حقى، وجدت نفسى بصدد حكاية مُشابهة، فى جوهرها، وإن لم يكن فى تفاصيلها. ودعونا نُطلق على مأساة قريتى العنوان الذى اخترته للمقال، لأنه يُلخص الحكاية. فالشباب الثلاثة الذين ماتوا غرقاً، كانوا قد تلقوا قِسطاً من التعليم المتوسط، الذى لم يوفر لهم، فى مصر عملاً أو دخلاً، يُرضى طموحاتهم المادية، فولوا وجوههم شطر أوروبا. وعملوا هناك لعدة سنوات، عادوا بعدها إلى الوطن بمُدخرات لا بأس بها، ولكن عاد معهم من أوروبا، زميل دجّال، أوهمهم بأن فناء منزل أحدهم يحتوى على كنز أثرى من الذهب والفضة والياقوت. وأن هذا الكنز على عُمق ثلاثين متراً، وأنه لا بد من الحفر، فى كتمان تام، حتى يصلوا إلى قاع البئر المحفور، ليجدوا ذلك الكنز المسحور.
وفعلاً، تكتم الشباب الثلاثة على السر، وبدأوا يحفرون فى صمت من وراء سواتر خشبية، حتى لا ينتبه أى زائر أو زائرة، لما يفعله الفرسان الثلاثة. حتى أم أحدهم، والزوجة الشابة لأحدهم ظلتا يُراقبان المشروع فى صمت وكتمان، أو ربما يُخططان للحياة الموعودة مع الكنز الموعود، حتى وقعت الواقعة، مع استغاثة أحدهم بأنه يغرق... يغرق... تحت اندفاع المياه الجوفية من قاع البئر المحفور على عُمق ثلاثين متراً... وكان لا بد لرجال الدفاع المدنى والإطفاء أن يأتوا بسيارات الإسعاف والحريق، من أقرب مدينة، وهى المنصورة، لكى تُساعد فى انتشال الغرقى، الذين فارق الحياة منهم اثنان.
أما الثالث، الذى كان لايزال على قيد الحياة، فبمجرد خروجه إلى سطح الأرض، فرّ هارباً، إما خوفاً من المُساءلة الجنائية، أو إحساساً منه بالذنب. فقطعاً، كان الشباب الثلاثة، وربما ذووهم يعرفون أن التنقيب عن الآثار، دون تصريح من الجهات المعنية، هو سلوك مُخالف للقانون. وربما فر الشاب الثالث، الذى كان أكبرهم، وكان يعمل معهما فى هولندا. وأغلب الظن أنه كان صاحب الفكرة، والعقل المُدبر، ويقول رجال الدفاع المدنى، إنه كان يرتدى ملابس غطاس. أى أنه كان أكثر دراية وحذراً. ومع كتابة هذا المقال، بعد أسبوعين من الواقعة، لم تعثر الشُرطة على ذلك الشاب، والذى لا بد أن لديه من المعلومات والأسرار، الشىء الكثير.
إن أحد أوجه الطرافة فى هذه المأساة، هو أن كاتب هذه السطور (سعد الدين إبراهيم) تناول إفطار العاشر من رمضان فى نفس هذا المنزل، الذى كان حفر البئر المسحور يتم فيه منذ أربعة شهور سابقة، على الأقل، طبقاً لجهات التحقيق. ولا أدرى سر تكتم ما كان يحدث فى الفناء الخلفى للبيت الكبير، الذى نشأت فيه طفلاً، وصبياً، وشاباً. وكانت طفولتى حافلة بقصص عن الجان والعفاريت. ولكن هذه القصص والحكايات بدأت تتناقص تدريجياً، مع زيادة التعليم مع أبناء أسرتى، وأهل قريتى.
ولكن يبدو، كما فى حكاية قنديل أم هاشم، أن الجهل والجهالة لهما ألف وجه ووجه.
والله أعلم
نقلآ عن المصري اليوم