الاربعاء ١٣ اغسطس ٢٠١٤ -
١٠:
٠٨ م +02:00 EET
العَذْرَاءُ مَريَمُ
بقلم : القمص اثناسيوس جورج
الكنيسة الأرثوذكسية لا تجعل من علم المريميات (Μαριολογία) موضوعًا عقائديًا مستقلاً بذاته؛ بل يظل متكاملاً مع مجموع التعليم المسيحي القائم على أساس الكريستولوجي وطبيعة مخلصنا الصالح (Χριστολογια) متأثرًا كثيرًا بالتعليم عن الروح القدس (Πνευματολογια)؛ من خلال التدبير؛ مرتبطًا بشدة بحقيقة التعليم عن الكنيسة (Εκκλησιολογια). لذلك نظرتنا إلى العذراء القديسة في كل شيء لا تتخذ كامل معناها إلا من خلال سر الخلاص والتجسد الإلهي. فتقليدنا الكنسي لا يعتبرها أبدًا موضوعًا مستقلاً وقائمًا بحدّ ذاته، بل يراها دائمًا من خلال دورها في تدبير الخلاص، وإن كان تقليدنا برُمَّته يتضمن مدائح وتكريمًا وثيؤطوكيات؛ لكنه في الوقت نفسه لم يحسبها موضوع بحث نظرﻱ خاص يُدرَّس بحد ذاته،
أو مسألة عقائدية مستقلة. فالآباء الأولون تكلموا عنها في سياق المناسبات والتفاسير والكتابات والليتورﭼيات من أجل ارتباطها بالخطة الإلهية للخلاص، بعد أن خدمت خلاص البشر وتم بواسطتها قصد الله القديم، وأجابت بإرادتها الحرة (هوذا أنا أمَة الرب، ليكن لي كقولك) في تذكار البشارة المسمىَ في الليتورﭼية (رأس خلاصنا). قبلتْ غير المحوَى في بطنها، ومن قِبَل ثمرتها أدرك الخلاصُ جنسنا، وأشرق لنا منها شمس البِر، قدَّمته لنا محمولاً على ذراعيها، ولدته بإتحاد بغير افتراق، ولدته كالنبوة بغير زرع ولا فساد، وبقيت عذراء بعد الولادة؛ وبتوليتها مصونة بأمر عجيب، فهي قُبّة وقدس أقداس، وتابوت مصفح بالذهب من كل ناحية، صارت أمًا لله، عمانوئيل ابن العلي، وقد ثبَّت مجمع أفسس (٤٣١م) مسكونيًا لقب "والدة الإله الثيؤطوكوس" هذه التسمية ذات الواقع اللامتناهي. فالكنيسة الأرثوذكسية نادرًا ما ترسمها وحدها؛ بل جالسة عن يمين الملك؛ حاملة دومًا ابنها الإلهي بين ساعديها ومتوَّجة كملكة. هي أعلى من الشاروبيم وأجَلّ من السيرافيم، لأن الآب تطلع من السماء ولم يجد من يشبهها، فأرسل وحيده أتى وتجسد منها.
غير الدنسة العفيفة قبلت بإرادتها الحرة وهي نذيرة الهيكل أن يَفِد إليها الابن الوحيد، فصارت الشرط البشرﻱ المباشر والموضوعي للتجسد، والمكان الحي حيث سكن العلي في بطنها، ودُعيت سماءً ثانية جسدانية، وصارت أيقونتها هي أيقونة التجسد، واسمها ولقبها صار يحوﻱ سر التدبير الإلهي للخلاص، بإسهام إيمانها وطاعتها وطهارتها وفقرها ونذرها وتكريسها وإرادتها. وبواسطتها أصلحنا الله مرة أخرى من قِبَل صلاحه، فأخذ المسيح وجه إنسان، وارتبطت هي به ارتباطًا عضويًا، ارتباطًا فريدًا مع شخص كلمة الله الذﻱ اتخذ جسدًا من جسدها، وأراد أن يكون ابنها بالمعنى الكامل للكلمة. إنها العَجْنة؛ والسماء والأرض، والنسل الجديد، حواء الثانية أم كل حي. حَجْلة الرب المتسربلة بالشمس، مدينة الله التي قيل عنها أعمال مجيدة، لأنها أرفع وأمجد بغير قياس من كل الطغمات. وهي النذيرة الفقيرة البرئية التي استحقت أن تكون الأم والعبدة، الأم الدائمة البتولية،
الأم والعذراء، عظمتْ الرب فأزهرت وأوسقت ثمرًا، وابتهجت بالله مخلصها؛ ففاح عنبرها بوحدانية لا يُنطق بها، ونضح الحُبُور عليها في الروح القدس؛ فنادت في أرضنا وأينعت لنا ثمرة الروح، حبلت بالفرح وولدت بالفرح، وهي يُنبوع الحياة الفائض الذﻱ نبعت لنا منه نعمة اللاهوت، فصارت عنبرًا مختارًا ويمامة عقلية وسبب فرح وخلاص وعتق ونجاة وفخر وشفاء وكرازة وكرامة وثبات ورفعة وقوة كل من يتشفع بها. ففي رقادها أيضًا ما أهملت العالم وما تركته لأنها الشفيعة المؤتمنة التي تستُر العالم بجناحيها وتحرسه بزنارها. وهي قوية في الحروب، ناظرة إلينا من المواضع العلوية، ترفع ألحاظها وتوصينا جميعًا (مهما قال لكم ابني تفعلوا) ونحن نقول لها (الفرح لكِ يا والدة الإله مريم أم يسوع المسيح).