بقلم:يوسف سيدهم
في مستهل تسعينيات القرن الماضي وعقب انفراط عقد الاتحاد السوفيتي وماتلاه من الإعصار الذي اجتاح دول أوروبا الشرقية ليفك أسر شعوبها من لعنة الأنظمة الشيوعية,شهد العالم نماذج مختلفة من أنماط ميلاد الدول الجديدة الي خلفها ذلك الإعصار:دول اشتاقت شعوبها إلي الخلاص والوحدة واللحاق بركب الديمقراطية والإصلاح مثل ألمانيا الشرقية وبولندة وتشيكوسلوفاكيا والمجر....
ودول خاضت مرحلة مخاص صعبة للخروج من رحم الشيوعية والاستبداد مثل رومانيا وبلغاريا وألبانيا....بينما انفردت يوجوسلافيا بنموذج دموي بشع أزعج العالم وشغله لعدة سنوات قبل أن ينفرط عقدها علي غرار الاتحاد السوفيتي نفسه وتختلف وراءها عدة دويلات جريحة مطحونة محطمة احتاجت سنوات أخري لتستقر أوضاع شعوبها وتعيد بناء مؤسساتها ومرافقها.
فيوجوسلافيا كانت بالفعل نموذجا منفردا,إذ اكتشف العالم أن هذه الدولة القوية التي حكمها زعيم فرض نفسه علي عالم دول عدم الانحياز هو جوزيب تيتو والتي كان لها ثقل لايستهان به وسط دول الكتلة الشرقية,هي في الحقيقة دولة تحتضن عدة عرقيات أهمها الصرب والكروات والبوسنة والهرسك والجبل الأسود,وأن العلاقة بينها كان يحكمها التعصب العرقي والديني وسطوة وبطش الأغلبية
وكانت المظلة التي تجمعها وهي الدولة اليوجوسلافية برئاسة تيتو لم تكن سوي استبداد القهر وقوة الحديد والنار وديكتاتورية القمع,فكانت بمثابة بركان يغلي تحت السطح سرعان ما انفجر وتطايرت حممه فور رحيل تيتو.
والكل يعرف كيف انفجرت عرقيات يوجلاسلافيا بعد تيتو كل منها تطالب بالاستقلال والانفصال عن البلد الأم-لأن يوجوسلافيا لم تكن أما في الحقيقة ولم تجمع أبناءها تحت جناحيها بل تركتهم الكبير يستعبد الصغير والقوي يقهر الضعيف-وشهدنا جميعا فترة حروب وصراعات مسلحة رهيبة بين تلك العرقيات سرعان ما أفزعت العالم الحر بدخولها في مستنقع اجتياح الصرب والكروات المسيحيين للبوسنة والهرسك المسلمين وانزلاقهم نحو واحدة من أبشع جرائم التطهير العرقي والقتل بالجملة للمسلمين وتدمير ممتلكاتهم واغتصاب نسائهم وتشريد أطفالهم.
لم يستطع العالم الحر ابتلاع مايجري وانفجرت مظاهرات الشعوب تدين مايتعرض له مسلمو البوسنة والهرسك ووصل الأمر إلي استحالة وقوف الأسرة العالمية متفرجة علي مايحدث...وعندما لم ينصع الصرب والكروات المسيحيون لقرارات الأمم المتحدة إيقاف القتال والتطهير العرقي,لم يكن هناك مفر من إرسال قوات دولية لفرض إيقاف إطلاق النار بالقوة والفصل بين الأطراف المتحاربة,وتبع ذلك إيقاف دول حلف الأطلنطي والولايات المتحدة علي شن سلسلة متلاحقة من غارات القصف الجوي علي مواقع وتجمعات وتحصينات الصرب
والكروات لكسر شوكتهم وإجبارهم علي إيقاف ضربات التطهير العرقي التي يواصلون توجيهها لمسلمي البوسنة والهرسك...واستمر الأمر كذلك لفترة غير قصيرة حتي نجح العالم في كبح جماح المعتدين وتأمين استقلال الأقلية المسلمة في البوسنة والهرسك,بل تبع ذلك أضرار دؤوب علي ملاحقة قادة ذلك التطهير العرقي ومجرمي الإبادة الجماعية من الصرب والكروات والقبض عليهم وتقديمهم إلي محاكم جرائم الحرب حيث نالوا العقاب الذي يستحقونه.
لست أسرد كل هذا التاريخ بلا سبب,بل لأن التاريخ يعيد نفسه ويتكرر ذات السيناريو في منطقتنا منذ سنوات لكننا نفشل في قراءته ونكتفي بالفرجة عليه حتي انفجر وجهه القبيح مؤخرا وأصبحت الكرة في ملعب الأسرة العالمية لنري ماستفعل حياله...إنه العراق...نعم العراق الذي وحدته ديكتاتورية صدام حسين وقمعه وبطشه دون النظر إلي العرقيات المختلفة التي تعيش فيه من مسلمين سنة وشيعة ومسيحيين وأكراد ودروز وغيرهم,وبينما ظهر لنا في صورة العراق الموحد والدولة القوية سياسيا واقتصاديا وعسكريا كان في الحقيقية مثل القنبلة الموقوتة التي ما أن سحب صمام الأمان منها بإسقاط صدام حتي انفجر صراع رهيب بين عرقيات شعبها كل عرقية تبغي الإسراع في اقتطاع أكبر جزء ممكن من كعكة الوطن لها بالإضافة إلي انطلاقها في تصفية الحسابات مع العرقيات الأخري
وأصيب العراق في مقتل بسبب انزلاق أهله في تقطيع أوصاله بينها اكتفت دول منطقتنا-مع كل من ينظر المشهد عن بعد-بالتشدق بالدفاع عنالعراق الموحد وهي تسمية ظاهرها طيب لكن حقيقتها يندي لها الجبين عند كل من يتابع العراق الممزق المتصارع المتناحر الذي لم يعد مطمعا لأهله فقط بل سال لعاب جماعات الإرهاب الدولي والتطرف والأصولية الدينية لالتهامه.
وها نحن نتابع منذ نحو شهر آخر وأبشع فصول مأساة العراق المفكك المغلوب علي أمره بظهور تنظيمداعش الإرهابي المسلح واجتياحه إقليم الموصل المسيحي وانطلاقه في ممارسة كل أشكال التطهير العرقي لمسيحيي العراق...الآن العالم يشهد في صمت مريب ومخجل كيف يطرد مسيحيو الموصل من بيوتهم وتنتزع ممتلكاتهم,وكيف يتم تهديدهم أما اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو القتل
وكيف يتم الاستيلاء علي أموالهم وحرق كنائسهم وملاحقه وطرد القسوس والرهبان للتنكيل بهم ومهاجمة الراهبات واغتصابهن,هذا بالإضافة إلي إذلال المسيحيين بإجبارهم علي الرحيل سيرا علي الأقدام غير آبهين بشيوخهم ونسائهم وأطفالهم...كل هذا يحدث بينما العالم يحتج ويستنكر وينتظر ماذا ستفعل الدول الكبري,لكن لاحياة لمن تنادي!!!
عصابةداعش تفتك في قمة البربرية والوحشية والانحطاط بمسيحيي الموصل,والأمم المتحدة عاجزة عن التدخل لإيقاف المهزلة ويكتفي أمينها العام بان كي مون بتصريحاته الهزيلة التي لا تفصي إلي شئ...الولايات المتحدة التي ظهر وجهها القبيح لاتعبأ وتقف متفرجة وتابعها حلف الأطلنطي الذي انتفض سابقا لإنقاذ مسلمي البوسنة والهرسك لايري حتي الآن مايدعو لإنقاذ مسيحيي الموصل والعراق...
حتي جامعة الدول العربية اكتفي أمينها العام بشجب مايحدث,لكن لماذا نتعجب؟....إذا صمتت الولايات المتحدة وغض حلف الأطلنطي بصره وصار أمين عام الأمم المتحدة كالماء-لا لون ولا طعم ولا رائحة!!-لماذا نستكثر علي الجامعة العربية أن تمارس دورها الذي عهدناه دوما:الظاهرة الصوتية؟!!
مسيحيو الموصل يتحولون تدريجيا إلي ذبيحة يسفك دمها ليلوث أيادي مجرميداعش وليصير وصمة عار في جبين الأسرة العالمية...إلي متي سيستمر هذا السيناريو المشين؟....لست أعرف....