رحم الله أستاذنا وتاج رؤوسنا الأستاذ نجيب محفوظ الذى رسم لنا شخصية «زيطة صانع العاهات» فى رواية زقاق المدق.. فى زمن غير بعيد كنا نقرأ الرواية ومازلنا نشاهد الفيلم السينمائى حتى الآن وتسيطر علينا حالة من الفزع والرفض والغثيان عندما تصفى العيون ويتم بتر السيقان والأذرع بكل القسوة وعدم الرحمة حتى يصير الإنسان مشوهاً وعاجزاً ومنكوباً ويصبح صالحاً لمهنة التسول التى يحترفها الكسالى أصحاب الأجسام البليدة فاقدة الهمة والكرامة والكارهة لكل أنواع العمل.. هذا النوع من البشر الذى جعل من التسول مهنة له ولا يخجل منها، بل إن بعضهم يتفاخر بأن دخله اليومى يفوق دخل كبار الموظفين لا صغارهم.. وكل هذا بسبب انتشار وتأصيل ثقافة التسول فى المجتمع المصرى.. وانعدام ثقافة العمل التى تعطى للإنسان حياة كريمة وإن انخفض دخلها.. ولكن يبدو أن مسألة الكرامة والكبرياء وعزة النفس لم تعد من شيم وأخلاق المصريين.. الكل يتسول بطريقة أو بأخرى.. ولاسيما بعد أن صار التسول يتم الإعلان عنه بصور مختلفة كلها قسوة وفظاظة وغلظة..
لقد طور «زيطة صانع العاهات» أدواته وتوسعت دولته وتحول إلى جمعيات خيرية ومستشفيات فى تخصصات مختلفة «سرطان - كبد - كلى- قلب» بالإضافة إلى شركات الإعلانات التى باعت ضمائرها أو بالأحرى تخلصت منها نهائياً وخالفت الواقع الذى نعيشه وبالغت كل المبالغة غير المنطقية فى تجسيد الفقر والمرض فى صور مؤلمة ومحزنة وصادمة تؤذى الإنسان فى إنسانيته وهذا العام ومع كثرة هذه الإعلانات المقيتة التى تطارد الناس فى بيوتهم مطاردة الذئاب المسعورة وفى كثافة وإلحاح شديدين حتى اسودت عيشة البشر أكثر ما هى سوداء وصبغتها بالكآبة التى شملت السليم والمريض معاً.. الجائع والشبعان.. الطفل قبل الرجل.. والمرأة قبل زوجها حتى صارت الفقرات الإعلانية هماً وغماً وقرفاً وكآبة مصحوبة بالسخط.. ولأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.. فإن مناقشة هذا الأمر الفاضح والمخجل والمهين حق لنا ولغيرنا.. ونسأل ما حجم الأموال التى أنفقت على هذه الحملات المسعورة..؟!
بداية ومنعاً للمزايدة، وقبل أن تنطلق سهام المستفيدين والمنتفعين.. أقر وأعترف بأننا نعيش فى مصر وليس فى سويسرا أو بلاد الشمال المحاطة بالثلج والنعيم.. نحن فى مصر الفقيرة التى يحمل أهلها كل أنواع الأمراض الفتاكة فى ظل إهمال تام للوقاية أو العلاج بسبب الفساد والإهمال وعجز الدولة عن القيام بمسؤولياتها.. ولدينا «الفقر الدكر» وهو أشد حالات الفقر بؤساً وعوزاً واحتياجاً.. ولم أكن يوماً بعيداً عنه فى صباى ولم أنكر أننى عشته وانتصرت عليه بالعمل والإرادة.. وما أكثر الذين كانوا مثلى وفعلوا مثلما فعلت.. ولكن عندما يصل الأمر إلى حد الافتراء والكذب والتضليل بهدف جمع التبرعات خلال الشهر الكريم فلابد من وقفة جادة وأمينة.. مثلاً..
السيد «نيازى سلام» المسؤول عن بنك الطعام وهو رجل أعمال هواه مع الإخوان ابتلانا هذا العام بمسلسل «الجوع» الذى صنعه له «زيطة».. صانع الإعلانات.. وأنا أتحدى هذا الرجل أن يأتى لنا بالطفل الجائع الذى يسير داخل الخرابة ويلتقط حجراً من الأرض ويربطه فوق بطنه من الجوع.. ولا أعرف ارتباط الجوع بالخرابات.. هل ممنوع على الجائع أن يكون فى أى مكان عامر بالناس حتى يرزقه الله من فضله.. ولكن الهدف صنع الصورة المؤلمة حتى لو كانت كاذبة ومضللة.. أين الرجل الذى يأكل من صناديق القمامة.. أنا أعرف أن البعض يفتش فى صناديق القمامة ولكن عن أى شىء قد ينتفع به.. أما الأكل من صناديق القمامة فمرحلة لم تحدث فى مصر حتى الآن وأسأل الله ألا تحدث.
والسيدة التى تقف فى عرض الشارع تسب الناس لأنها جائعة والمعروف أن الفحش فى القول لا ترق له القلوب.. ولكنه الغباء الإعلامى أو الإعلانى حيث يتحمل هذه المسؤولية التى تصل إلى حد الجريمة الجهة المستفيدة من الإعلان.. وصانع الإعلان.. وناشر الإعلان.. وهى القناة التى تبث الإعلان.. وأعترف بأن الظن السيئ قد استولى على عقلى وفكرت فى أن يكون الهدف لمثل هذه النوعية من الإعلانات هو تصدير صورة سيئة عن أحوال مصر للعالم العربى والخارجى وتكون هذه الصورة ناطقة بكل هذا القبح المصطنع الذى أفرزه مخرج كأنه يخرج فضلاته.. وتولى الإنفاق الذين تاجروا بآلام المرضى والفقراء فإذا كانت هذه النماذج التى نراها هى نماذج حقيقية فالتجارة بآلامهم صوتاً وصورة وبهذه الطريقة جريمة فى حق الإنسانية.. وإذا كانوا من الأهالى الذين تم اختيارهم لتأدية الدور كما ينبغى فإن ذلك خداع وغش وتدليس لا يقبل به القانون..
ولأننا فى دولة تعيش فى غيبوبة حتى هذه اللحظة وتأخذ وقتاً طويلاً فى عملية الإفاقة.. فإن السيدة الفاضلة وزيرة التضامن كأنها لا تسمع ولا ترى ونحن ضد المنع والمصادرة مع العلم بأن أى إعلان فيه ما يخدش الحياء أو الخروج عن المألوف يمنع فوراً مع الترحيب والإشادة ونترك الإعلانات التى تحمل الإساءة إلى المرضى والفقراء والجياع وحتى الذين لا يجيدون نقطة المياه وبدلاً من السعى إلى حل مشاكلهم نتاجر بالمأساة التى هبطت فوق رؤوسهم.. فإذا كان هذا واقعنا حقاً وصدقاً فماذا تصنع الوزيرة من أجل الخلاص من هذا الواقع الأليم الذى يخلع القلوب كما تصوره هذه الحملة المحمومة التى تجاوزت القبح ذاته.. ويبدو أن زيطة صانع العاهات فى مصر المحروسة لا يشاهد عن عمد مثل هذه النوعية من حملات التبرع لكل ألوان الخير والتى تحرص على إنسانية المريض والفقير وتحرص على الرقة وتبشر ولا تنفر..
ولا تعرض الرؤوس الحليقة ولا الصدور المشقوقة والبطون المفتوحة.. ولكن هكذا أصبحنا وفرض علينا «زيطة صانع الإعلانات» ذوقه البشع ورؤيته القبيحة حتى إن غالبية الآباء والأمهات فى أيديهم «الريموت كنترول» بصفة دائمة خوفاً من هجوم هذه الإعلانات الشريرة على أطفالهم، لم تعد هذه «الإعلانات» جالبة للعطف بل هى جالبة للسخط والنفور والغريب والمدهش حقاً هذه العدوى انتقلت إلى السلع التى يحتاج الإعلان عنها إلى شىء من البهجة والمرح، فمساحيق الغسيل مثلاً يتم الإعلان عنها بالقذارة ومدى انتشارها وليس بالنظافة ومدى بهائها، والشامبو الخاص بالشعر يقدم لك أولاً الشعر وهو يتساقط وهكذا.. وأشد حالات التناقض التى يفرضها علينا «زيطة.. صانع العاهات» أن شركات الإعلان هذه تصنع فى نفس الوقت إعلانات المساكن الفاخرة والمياه الغازية والسيارات الفارهة والعطور الغالية ومن المألوف أن تشاهد إعلان الجوع وبعده مباشرة إعلان مطعم «أم حسن» الذى يقدم المشمر والمحمر، وإعلان الملابس الفاخرة يليه إعلان التبرع بالملابس القديمة، كما أن القنوات التى تبث إعلانات الجوع والعطش والمرض هى نفس القنوات التى تتسابق فى برامج الطبخ، حيث الشيف علان والشيف ترتان والطباخة أم على والطباخة أم بسيمة حيث يشرحون ويعلمون الذين لا يجدون قوت يومهم كيفية طبخ الإستاكوزا بالجمبرى، والديك الرومى المحشو بالحمام، وكأن الشعب المصرى يعيش فى قصور ملكية أو فى «سراى عابدين» مع العلم بأن تكاليف أقل وجبة يعدها الشيف علان لا تقل تكلفتها عن خمسمائة جنيه إن لم تكن تزيد، وقد قرأت فى إحدى الصحف أن السيدة الفاضلة المسؤولة عن الطفولة والأمومة صرحت بأن الدراما هذا العام لم تقم بأى إساءة إلى الأطفال، ياختى عليها!! ألم تشاهدى أطفال مستشفى السرطان وما يجرى عليهم كأنهم فى سوق للنخاسة حتى إن فضيلة مفتى الديار يظهر فى أحد هذه الإعلانات ويقول كلاماً كثيراً وطويلاً وهو يضع يده الطاهرة طوال الوقت على رأس الطفلة المسكينة وهى تنظر إلى لا شىء وهى شاردة لا تدرى من أمرها شيئاً، ورجل الدين هذا يعلم قبل أن أعلم أنا أن الدين الإسلامى يمنع الاتجار بالبشر، وليس الاتجار بالبشر هو بيع الإنسان أو شراءه، وإنما استغلاله بطريقة أو بأخرى، من شأنها أن تؤذيه سواء فى جسده أو روحه ووجدانه، أعلم أن هذا المستشفى يحصل على موافقة الأب والأم، وهذا ظلم آخر على أهالى المرضى، والحديث عن المستشفى هذا يطول، والقائمون عليه يعرفون أنى أعرف الكثير، وسبق أن سألتهم عن المرتبات الباهظة التى يحصل عليها جميع العاملين فى هذا المبنى النظيف وغير ذلك كثير، وأنا أعلم أن الفساد أقوى من الضمير، وأن الآلة الإعلامية الكاذبة لا ضمير لها، أيضاً السيدة الكئيبة التى تعلمنا - مصارف الذكاة الثمانية أسألها من الذى يستحق الذكاة الخاصة بالمؤلفة قلوبهم فى الوقت الحالى حتى أحصل على ثمانية من ثمانية، وغير ذلك كثير وما خفى كان أعظم وأشد إيلاماً وقسوة.
وعليه لسنا ضد فعل الخير، فالمريض يستحق العناية به والرفق بأحواله والحفاظ على إنسانيته، والفقير فى حاجة إلى المساعدة دون أن يهان أو يعرض فى سوق النخاسة التليفزيونية، ولسنا ضد جمع التبرعات لأى جهة بشرط أن يكون هناك ضمير مشبع بالرحمة، نريد أناسا يتقون الله فى هذا الوطن الجريح حتى تلتئم جراحه وهى عميقة، لقد صدرتم مصر إلى العالم الخارجى والعالم العربى وهى فى أسوأ حالاتها، من أجل حملات تسول رخيص. مصر يا سادة فيها شوارع تختنق من كثرة السيارات وفيها قصور وفيلات بأسعار لا يقبلها العقل، وبها المزارع والمصانع والمدارس والجامعات، ومازال نهر النيل يجرى، ومازال الفلاحون يطلقون المواويل فى الحقول، وحتى هذه اللحظة لم تفارقهم خفة الظل، ارحموا أهل مصر يا أهل مصر إذا كنتم حقاً من أهلها.
نقلا عن المصري اليوم