كانت أصوات الجيران عالية، و من الواضح أن شجارا ما قد اشتعل بين الزوجين.
دقت " ريانا" بابي في الساعة التاسعة ليلا، كانت تلك الأمريكية الشقراء، ذات السنوات السبعة، ترتجف بقدميها الحافيتين، و حملت لنا رسالة مقتضبة :
- ماما تقول لكم، اطلبوا ال(911)، و أعطوهم عنوان منزلنا، فأبي يضربها، و قد أخفى أجهزة الهاتف...
كم كنت مندفعة، و أنا أطلب الشرطة، لأن ذاكرتي كان قد أحضرت أناسا في البعيد، لا قانون يحميهم، و لا صوت لهم.
جلست "ريانا" تشرب كوب الحليب الساخن، الذي أعده لها زوجي، بينما كنا نسمع صوت سيارة الشرطة، ثم طلبت ورقة و قلما و بدأت الكتابة.
في العاشرة دخلت أم ريانا بيتي معتذرة، و شاكرة .
حضنت ابنتها و قرأت ما كتبته:
( لماذا يتزوج الرجل من عاهرة؟! )
( لأنه أشد عهرا )
**********
من تذكرتهم لا يزالون هناك، في بقعة أرضية قوانينها ذكورية، و رجال الدين( ذوو السلطة) فيها جميعهم ذكور.
حدث في ليلة خميس يعربي، و قبل أن أدخل في سبات التعب بعد اليوم الطويل، أني سمعت صوت طفلة باكية:
- الحقوا "ماما" (موّتها )من الضرب...
نهضت مسرعة لأرى " تالة" ذات الخمس سنوات تبكي و تصيح على شرفة منزلهم، و الجيران جميعهم على الشرف و الشبابيك..يستمعون.
لم أدر ما أفعل، الرجال و النساء (القديمين) لم يقدموا على أية خطوة ..ما الذي سأفعله أنا الساكنة الجديدة هنا، و زوجي مناوب في المستشفى، لكن منظر " تالة" الخائف حد الاصفرار، كان أقوى من جميع ترهات الحياديّة.
وضعت معطفي على ثياب النوم، و خرجت ...
طرقت بابهم أكثر من عشرة مرات، باللباقة أولا و بكامل الهمجيّة لاحقا.. لم يفتحوا لي، لكن صوت "تالة" كان قد ابتعد و خفت.
عدت منزلي على أصوات الجيران و قرفهم:
-(ليش لتوجعي راسك يا دكتورة )، زوجها و حر فيها.
-(شو هالدكتورة مفتكرة حالا رح تصلح الكون).
-أكيد أم تالة بتستاهل، لحتى انفجر الرجل...
عدت إلى منزلي، حزينة أرتجف، جافاني النوم ليلتها فصورة تلك الطفلة بقيت في مخيلتي، تسألني : كم من الخسائر النفسيّة حصدت!
في صباح اليوم التالي، استيقظت على صوت الجرس، نهضت مسرعة، و فتحت الباب لتدهشني كدمات الوجه الملائكي لأم تالة...
دخلت بيتي تتعثر بخجلها، جارة" تالة "من يدها الصغيرة.
- جئت أشكرك يا دكتورة، قالوا لي أنك من طرق الباب البارحة، لولاك لكنت اليوم ميتة..كما أود لو أطلب منك خدمة..هل لي أن أضع "تالة" عندك ساعة فقط ..اليوم يوم عطلة، و لا يوجد رياض أطفال، و يجب عليّ أن أذهب إلى المستشفى كي أطمئن على وضع (جنيني) بعد هذا الضرب .
و مع كل الدهشة التي عقدت لساني، أجبت:
-طبعا..أهلا و سهلا.
كان لبقاء "تالة" عندي وقع جميل، فإحساسي الصاخب بالحزن من أجلها كان كافيا لتضحيتي بيوم عطلة منتظر.
أعطيتها ( لوح شوكولا)، و قمت بتشغيل قناة للرسوم المتحركة في التلفاز، ثم أخرجت الغسيل من الغسالة، و بدأت أطويه..فتركت هي التلفاز و جلست تطويه معي.
-لا بأس، سأقوم بذلك بنفسي، كلي أنت( الشوكولا)، ثم سنصنع عصير الفواكه معا ...
نظرت إليّ بعينين عسليتين واسعتين:
- أنت دكتورة؟!
ابتسمت :
-أجل، لكن تستطيعين مناداتي "شمس".
- يعني أنت لست عاهرة؟!
توقفت عن طي الغسيل، و عن التفكير، و نظرت إليها بدهشة، و أنا أكذب أذنيّ..فأضافت:
- أمي "أمينة" ..عاهرة
- هذه الكلمة سيئة يا عزيزتي، أين سمعتيها؟!
و صح ظنّي عندما أجابت :
- بابا يناديها دوما عاهرة، و يقول أن كل النساء عاهرات .
جلست أرتب حديثا سهلا، و مقنعا، لأقتل البذرة الأولى للشيئية و امتهان الكرامة عند تلك الطفلة التي بقيت في ذاكرتي إلى اليوم .
قبل أن ترحل مع أمها، قسمت لها من لوح (الشوكولا).. قالت، و هي تبتسم :
- هذه القطعة لك كي تكبري، و تصبحي قوية..عندئذ لن يقول أحد عنك ..عاهرة.
يتبع...
نقلا عن الحوار المتمدن |