CET 10:27:36 - 06/04/2010

مقالات مختارة

بقلم: لمى محمد

كانت أصوات الجيران عالية، و من الواضح أن شجارا ما قد اشتعل بين الزوجين.
دقت " ريانا" بابي في الساعة التاسعة ليلا، كانت تلك الأمريكية الشقراء، ذات السنوات السبعة، ترتجف بقدميها الحافيتين، و حملت لنا رسالة مقتضبة :
- ماما تقول لكم، اطلبوا ال(911)، و أعطوهم عنوان منزلنا، فأبي يضربها، و قد أخفى أجهزة الهاتف...
كم كنت مندفعة، و أنا أطلب الشرطة، لأن ذاكرتي كان قد أحضرت أناسا في البعيد، لا قانون يحميهم، و لا صوت لهم.
جلست "ريانا" تشرب كوب الحليب الساخن، الذي أعده لها زوجي، بينما كنا نسمع صوت سيارة الشرطة، ثم طلبت ورقة و قلما و بدأت الكتابة.
في العاشرة دخلت أم ريانا بيتي معتذرة، و شاكرة .
حضنت ابنتها و قرأت ما كتبته:

( لماذا يتزوج الرجل من عاهرة؟! )
( لأنه أشد عهرا )
**********

من تذكرتهم لا يزالون هناك، في بقعة أرضية قوانينها ذكورية، و رجال الدين( ذوو السلطة) فيها جميعهم ذكور.
حدث في ليلة خميس يعربي، و قبل أن أدخل في سبات التعب بعد اليوم الطويل، أني سمعت صوت طفلة باكية:
- الحقوا "ماما" (موّتها )من الضرب...
نهضت مسرعة لأرى " تالة" ذات الخمس سنوات تبكي و تصيح على شرفة منزلهم، و الجيران جميعهم على الشرف و الشبابيك..يستمعون.
لم أدر ما أفعل، الرجال و النساء (القديمين) لم يقدموا على أية خطوة ..ما الذي سأفعله أنا الساكنة الجديدة هنا، و زوجي مناوب في المستشفى، لكن منظر " تالة" الخائف حد الاصفرار، كان أقوى من جميع ترهات الحياديّة.
وضعت معطفي على ثياب النوم، و خرجت ...
طرقت بابهم أكثر من عشرة مرات، باللباقة أولا و بكامل الهمجيّة لاحقا.. لم يفتحوا لي، لكن صوت "تالة" كان قد ابتعد و خفت.
عدت منزلي على أصوات الجيران و قرفهم:
-(ليش لتوجعي راسك يا دكتورة )، زوجها و حر فيها.
-(شو هالدكتورة مفتكرة حالا رح تصلح الكون).
-أكيد أم تالة بتستاهل، لحتى انفجر الرجل...

عدت إلى منزلي، حزينة أرتجف، جافاني النوم ليلتها فصورة تلك الطفلة بقيت في مخيلتي، تسألني : كم من الخسائر النفسيّة حصدت!

في صباح اليوم التالي، استيقظت على صوت الجرس، نهضت مسرعة، و فتحت الباب لتدهشني كدمات الوجه الملائكي لأم تالة...
دخلت بيتي تتعثر بخجلها، جارة" تالة "من يدها الصغيرة.

- جئت أشكرك يا دكتورة، قالوا لي أنك من طرق الباب البارحة، لولاك لكنت اليوم ميتة..كما أود لو أطلب منك خدمة..هل لي أن أضع "تالة" عندك ساعة فقط ..اليوم يوم عطلة، و لا يوجد رياض أطفال، و يجب عليّ أن أذهب إلى المستشفى كي أطمئن على وضع (جنيني) بعد هذا الضرب .

و مع كل الدهشة التي عقدت لساني، أجبت:
-طبعا..أهلا و سهلا.

كان لبقاء "تالة" عندي وقع جميل، فإحساسي الصاخب بالحزن من أجلها كان كافيا لتضحيتي بيوم عطلة منتظر.
أعطيتها ( لوح شوكولا)، و قمت بتشغيل قناة للرسوم المتحركة في التلفاز، ثم أخرجت الغسيل من الغسالة، و بدأت أطويه..فتركت هي التلفاز و جلست تطويه معي.

-لا بأس، سأقوم بذلك بنفسي، كلي أنت( الشوكولا)، ثم سنصنع عصير الفواكه معا ...
نظرت إليّ بعينين عسليتين واسعتين:
- أنت دكتورة؟!
ابتسمت :
-أجل، لكن تستطيعين مناداتي "شمس".
- يعني أنت لست عاهرة؟!
توقفت عن طي الغسيل، و عن التفكير، و نظرت إليها بدهشة، و أنا أكذب أذنيّ..فأضافت:
- أمي "أمينة" ..عاهرة
- هذه الكلمة سيئة يا عزيزتي، أين سمعتيها؟!
و صح ظنّي عندما أجابت :
- بابا يناديها دوما عاهرة، و يقول أن كل النساء عاهرات .

جلست أرتب حديثا سهلا، و مقنعا، لأقتل البذرة الأولى للشيئية و امتهان الكرامة عند تلك الطفلة التي بقيت في ذاكرتي إلى اليوم .


قبل أن ترحل مع أمها، قسمت لها من لوح (الشوكولا).. قالت، و هي تبتسم :
- هذه القطعة لك كي تكبري، و تصبحي قوية..عندئذ لن يقول أحد عنك ..عاهرة.

يتبع...

نقلا عن الحوار المتمدن

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع