بقلم - كمال زاخر موسي
على امتداد سنوات العمر الذى اخترقت حاجز الستين وتقترب بعد نحو شهرين وبضعة أيام من محطة منتصف العقد، كانت قائمة الأصدقاء تمتد هى الأخرى، تضم أطيافاً مختلفة وتنوعات تحاكى المجتمع، أغتنى بهم عن الدنيا وما فيها، ربما تحت تأثير مقولة كان يرددها أبى وأنا بعد طفل صغير "معرفة الناس كنوز"، وكان شعار أمى القادمة من عمق الصعيد والمحتفظة باصرار
حتى رحيلها على منظومة قيم أهل الجنوب "اللى يحبه ربنا يحبب فيه خلقه"، لذا كان بيتهما مفتوحاً على الدوام لكل من يقصده، فى بساطة وأريحية، وتجسد فيهما وبهما لنا هرم القيم المصرية الراقية.
كانت المناسبات الدينية تتحول فى تلقائية الى مناسبات اجتماعية، وتخرج من إطارها الدينى الى البراح المصرى، وفيها كنا نرصد ظاهرة "الطبق" الدوار، يخرج ويعود محملاً فى ذهابه وإيابه من بيت الى بيت بأطياب أكل المناسبة، وقد برع المصريون فى ربط تلك المناسبات بألوان من الأطعمة خاصة لكل مناسبة، البسكويت والكعك للعيد الصغير، واللحم وتنويعاته للعيد الكبير، لا يختلف الأمر من الأقباط أو المسلمين، والطعمية والفول النابت للجمعة الكبيرة، والحلوى المجسدة فى عروسة وحصان للمولد النبوى، طبق العاشورة فى مناسبتها
وتمتد القائمة لتكاد تغطى السنة بجملتها، وتتبارى البيوت فى منافسة حميمية فى اظهار الكفاءة و"الشطارة"، كانت السمة العامة الحاكمة هى الود والحب، وكانت المصالحة ووصل ما انقطع أحد أبرز مظاهر تلك المناسبات، ربما كانت هذه الخبرة هى سر تماسك المجتمع المصرى آنذاك.
كان رمضان يحجز مكانه على قمة هذه المناسبات، فيه تتغير أجندة العائلة المصرية وترتيب يومها، لا فرق بين مسيحى ومسلم، وكثيرا ما يتزامن الصوم عند كلاهما، وتصبح مصر فى حالة وجد روحى تحلق فيه بعيداً عن الصراعات وسباق المصالح، وضغوطات الحياة وقلق الغد، مازلت اذكر "مسحراتى" ذاك الزمان، ودوره الحيوى فى ضبط توقيتات السحور، كان اليوم مختلفاً، وقت ان كان كله ملك المرء، تلتئم الأسرة حول مائدة الإفطار، ثم تدير مؤشر "الراديو" لتلتقط حكايات "ألف ليلة وليلة" وتتولى عبر الخيال وضع تصورات لعالمها السحرى
كل واحد بحسب مخزونه وعالمه الخاص، ثم تصتنت إلى الفوازير وتجتهد فى حلها، ثم تتسامر بقدر ثم تخلد الى النوم، وبعدما ينتصف الليل بنحو ساعة يتناهى صوت "المسحراتى" تصاحبه نقرات رتيبة على "طبلته" الصغيرة، يوقظ النائمين، "اصحى يانايم وحد الدايم"، " قوم اتسحر وصلِّى ع النبى "، مناديا على الناس إسماً إسماً، كنا نصادقه ونعطيه أسماءنا، فيدرجها فى قائمة النداء، قوم يامحمد .. قوم ياعلى .. قوم ياجرجس .. قوم ياعبد الملاك .. قومى يام حسين، كنا نحسبه ميقاتى للمذاكرة فى ليل رمضان الهاجع والهادئ، والامتحانات حينها تقترب من الأبواب، لم تكن المسلسلات وقتها تتربص بالوقت تلتهمه وتبدده، ولم تكن الفضائيات قد وجدت وحين جاءت لم تكن قد تغولت بعد، ونضع أيدينا مجدداً على سر تماسك المجتمع المصرى آنذاك.
تجرى فى نهر الحياه مياه كثيرة، وتتبدل منظومة القيم، وترتبك ساعات النهار والليل أيضاً، وننكفئ على الذات بعد أن تم تجريف الذهنية الشعبية بقدر مزعج، وتتوه طبلة المسحراتى وسط ضجيج وصخب الحياة، ورغم ابهار الدراما تتراجع "الف ليلة وليلة" التى تحولت الى صور مرئية عن سحرها رغم بذخ الإخراج وقدرات التقنية التى تغازل الخيال. وتتحول "عزومات الإفطار" الى بند فى اجندة الفعل السياسى، وفى بعضها تحاول، بغير مردود حقيقى، ان ترتق ثوب الأندماج الوطنى بعد أن مزقته الصراعات الضيقة، وتفقد ليالى الحسين ومقهى الفيشاوى جاذبيته، بعد أن كان احد طقوس اسرتى القبطية الصغيرة فى رمضان، لسنوات.
ثم ينتفض المصريون مجدداً بفعل المخزون الحضارى المتغلغل فى جيناتهم، يسعون لإستراد مصر التى كانت، ويرسمون مجدداً محاورها، وينتبهون إلى الأخطار المحدقة بهم وباجيالهم القادمة، ويصححون فى بطء المسار، وفى يقينى أننا سنحقق استرداد مصر التى خبرناها يوماً.
وقبل أن ينتصف رمضان تطرأ على ذهنى فكرة وصل ما انقطع، وتدور بينى وبين مجموعة من الأصدقاء والصديقات جملة من الاتصالات تجد استجابة تؤكد أن العودة لحميميتنا ممكنة، دعوتهم إلى أن نلتقى حول مائدة افطار رمضانى "بيتى"، وجدتنى أمام مجموعة تجمع بين الشباب وجيل الآباء، أقباطا ومسلمين، كتابا وأعلاميين وأساتذة بالجامعة ورجال أعمال، اختلفت مشاربهم وجمعتهم مصريتهم، بنات وسيدات وأولاد ورجال، أصرت زوجتى أن تكون المائدة "بيتى" مصرية بامتياز وأصر الإصدقاء على أن يلحقون الإفطار بمائدة دسمة من الحوار والعصف الذهنى واسترداد الرقى فى الاختلاف وكان كل منهم ومنهن اضافة حقيقية وثرية.
اقترب منى الصديق حمدى الأسيوطى القابض على قيمه ومبادئه، بإصرار وهدوء، ليهدينى كتاب "موسوعة الرقابة والأعمال المصادرة فى العالم" إعداد وتعريب د. رمسيس عوض، وبعده يهدينى الصديق الدكتور كمال مغيث كتابه التوثيقى "هتافات الثورة المصرية ونصوصها الكاملة"، ليواصل
دور التحليل النفسى السياسى الإجتماعى على درب الرائع الدكتور سيد عويس، هل هى مصادفة؟، هل ثمة علاقة بين العنوانين .. هل كانت المصادرات وحصار الإبداع ومطاردة الفكر هى المفجرة للثورة؟، هل استطاعت المصادرة والحصار أن تمنع ابداعات الشارع والشباب فى صياغة وصك هتافاتهم التى زلزلت نظامين فاشيين؟
واقترب أنا من الدكتور أنور مغيث مهنئاً بتوليه مسئولية قيادة المركز القومى للترجمة، متسائلاً متى تمد وزارة الثقافة اهتمامها بمدينة نصر وتفتتح منافذ بيع لمكتبات الهيئة العامة للكتاب ومكتبة الأسرة وقصور الثقافة ومركز الترجمة والمجلس الأعلى للثقافة وغيرها، فى الحدائق المنتشرة بالمنطقة؟، ... ياه ... سياسة تانى .. عفواً ... رمضان كريم .. لندع الكتابين لمقالات قادمة ... كل سنة وأنتم طيبون.
|
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|